الخميس، 28 أبريل 2016

مقتطفات للشاعر شارل بودلير




شارل پيير بودلير (1821-1867) هو شاعر وناقد فني فرنسي، يعتبر من أبرز شعراء القرن التاسع عشر ومن رموز الحداثة في العالم. حيث حُسب شعره على أنه متقدم ومتجاوز لشعر زمنه فلم يفهم جيدًا إلا بعد وفاته. بدأ بودلير كتابة قصائده النثرية عام 1857 عقب نشر ديوانه الشهير “أزهار الشر”، مدفوعا بالرغبة في شكل شعري يمكنه استيعاب العديد من تناقضات الحياة اليومية في المدن الكبري مثل باريس. (الموسوعة).


لا أتخيل كيف ليد ان تمسك صحيفة من غير ان ترتجف اشمئزازا

***

أنا غرفة انتظار عتيقة
مليئة بالورود الذابلة
يملؤها خليط عجيب
من أزياء فات زمانها
ولا يتنفس فيها عبير عطر مسكوب
إلا الرسوم النائحة

ولوحات بوشيه الشاحبة

***

من بين الحقوق التي كثر الخوض في شأنها، ثمة حق منسي يهم الجميع أن يعاد إليه الإعتبار.إنه الحق في التناقض

***

إلى كلاب باريس الضالة . تعالي معي ولنصنع من بؤسينا نوع من الحياة

***

أيها الموت، أيها القبطان العجوز، حان الوقت الآن، فلنرفع المرساة؛ هذا البلد يبعث فينا السأم. أيها الموت فلنبحر.

***

لا تحتقروا حساسيّة أحد ، حساسية كلٍّ منّا هي عبقريته


***

الليل، الذي يغمر روح الناس بعتماته، يضيء روحي.


***

أنا بهو قديم تملؤه الزهور الذابلة

***


هناك من لا يستطيع أن يلهو إلا وهو في القطيع البطل الحقيقي يلهو وحيدا


****


الأمم لا تلد عظماءها الا مرغمة.


***


يبقى الدين مقدسا والهيا، ولو كان الله غير موجود.


***

الفراشة المبهورة تطير نحوك أيتها الشمعة
 تقرقع وتحترق وتقول مبارك هذا اللهب

***


البحر مرآتك، تتأمل بإعجاب روحك في تموّجاته الأبدي


***

أنا الجرح والسكين
 أنا الخد والصفعة 
أنا الأعضاء وآلة التعذيب
 أنا الجلاد والضحية 
أنا مصاص دماء قلبي.

***

ما أسعد من يحلّق فوق الوجود ، ويفهم دون عناءٍ كبير لغة الزهور والأشياء الصامتة.

***

كي لاتكونوا عبيد الزمان المعذبين
 انتشوا انتشوا دونما انقطاع


***

كل شيء في هذا العالم ينضح بالجريمة : الجريدة والجدار ووجه الإنسان.

***


من يبني آماله على الأوهام ..
 يجدها تتحقق في الأحلام ..


****



من كتاب أزهار الشر



القطرس

غالبًا ما يصطاد البحارة طلبًا للتسلية
طيور القطرس. هذه الطيور الكبيرة
التي تتبع بغير مبالاة السفينة المنسابة
فوق اللجج كأنها رفاق السفر
وما إن يضع البحارة ملك الفضاء هذا
على ألواح السفينة
حتى يتحول إلى أخرق خجل
يترك جناحيه الكبيرين الناصعين
يجرجران إلى جانبه كالمجاديف
بصورة تدعو للرثاء
يا له من أخرق تافه مضحك بشع
هذا المسافر المجنح الذي كان في غاية الجمال
فواحد يزعج منقاره بغليونه
وآخر يقلد وهو يعرج هذا المريض الذي كان يحلق
ما أشبه الشاعر بأمير الفضاء هذا
الذي كان يرود العاصفة ويهزأ بالرماة
إنه على الأرض منفيّ بين الغوغاء
وأجنحته الجبارة تعوقه عن مواصلة المسير.



العدوّ

شبابي لم يكن سوى زوبعة قاتمة
اخترقته هنا وهناك الشموس اللامعة
فقد عبث المطر والرعد ببستاني
فلم يبقيا فيه إلا القليل من الثمار الذهبية
وها إن أفكاري قد بلغت خريفها
ولا بد لي من استعمال الرفش والمسلفة
لأعيد تنظيم هذه المزارع التي غمرتها المياه
وحفرت فيها حفرًا واسعة كالقبور
من يدري إذا كانت هذه الأزهار الجديدة
التي كنت بها أحلم
ستجد في التربة المغسولة كالرمل
الغذاء الرمزي الذي يبعث فيها النشاط
أيها الألم إن الزمن يُبلي الحياة
والعدوّ الغامض الذي ينهش قلوبنا
على دمنا المسفوح ينمو ويقوى.

الرجل والبحر

أيها الإنسان الحر ستحب البحر دائمًا
فالبحر مرآتك تتأمل نفسك في انبساط أمواجه
غير المتناهية، في حين
أن روحك هاوية لا يقل عنه مرارة
ومن دواعي سرورك أن تغوص في أعماق صورتك
وتضمها بعينيك وذراعيك
وقلبك يلهو أحيانًا بخفقانه
وبصخب هذه الشكوى الوحشية المتمردة
فأنتما غامضان لا تبوحان
فيا أيها الرجل.. لم يستطع أحد أن يسبر أغوار نفسك
ويا أيها البحر.. لم يستطع أحد أن يعرف مقدار ثروتك
الدفينة في أعماقك
لحرصكما الشديد على كتمان أسراركما
ومع ذلك فإنكما تحتربان بلا شفقة ولا ندم
لأنكما تحبان كثيرًا الموت والمجازر
يا أيها المتحاربان الأزليان
والأخوان اللذان لا يعرفان الهدوء



بكاملها

زارني الشيطان يومًا في غرفتي العالية
محاولاً أن يضبطني متلبسًا بالخطيئة
فقال: أتوق أن تخبرني عن أحلى ما فيها
فبين كل المفاتن التي تصنع سحرها
ومن الأشياء الوردية والسوداء
التي تكوّن جسدها الفاتن
أي شيء هو الأجمل
أراك يا نفسي تجيبين كارهة
لا سبيل إلى المفاضلة فكل ما فيها بلسم
فعندما يلفني بسحره كل شيء فيها
أجدني أجهل الشيء الذي سحرني
إنها كالفجر تبهيني وكالليل تعزيني
والانسجام الذي يلف كل جسدها
بلغ من روعته أن عجز التحليل وقصّر
عن تعداد توافقاتها العديدة
فيا تغيُّر حواسي كلها الذائبة في واحدة
إن أنفاسها تصنع الموسيقى
وإن صوتها يصنع العطور.

الشبح

كالملائكة ذات العيون الوحشية
سأعود إلى مخدعك
وأتسلل إليك بغير جلبة مع ظلام الليل
وسأمنحك يا سمرائي
قبلاً باردة كالقمر
ومداعبات أفعوان يسعى حول وكره
وعندما يعود الصباح الكئيب
ستجدين مكاني فارغًا وسيستمر باردًا حتى المساء
وكما يحب بعضهم أن يسيطروا
بالحب على حياتك وشبابك
أنا أريد أن أسيطر بالرعب.



موت الفقراء

إنه الموت الذي يعزي واحسرتاه
وهو الذي يحملنا على الحياة
إنه غاية الحياة والأمل الوحيد
الذي يرفعنا ويبعث كالإكسير النشوة في نفوسنا
ويزوّدنا بالجرأة التي تجعلنا نتابع الطريق إلى النهاية
عبر الإعصار والثلج والجليد
هو الضوء المتموّج في آفاقنا السود
إنه الفندق الذائع الصيت
الذي يوفر الطعام والراحة والنوم
إنه الملاك الذي يحمل بين أصابعه السحرية
الرقاد ونعمة الأحلام السعيدة
ويسوي مضاجع الفقراء والعراة
هو مجد الآلهة ومخزن الغلال الرمزي
وكيس نقود الفقراء وموطنهم القديم
إنه الرواق المفتوح على الآفاق

المجهولة.

*************







أمي العزيزة،


إذا كنت حقاً تمتكلين روح الأمومة ولستِ مرهقة؛ تعالي إلى باريس. تعالي لتريني ولتبحثي عني. أنا، ولألف سبب رهيب، لا أستطيع الذهاب إلى أونفلور (Honfleur) ملتمساً ما طالما بحثت عنه: قليلاً من الجرأة والحنّية. في نهاية آذار، كتبت إليك: “لن نلتقى مرة أخرى”، وكنتُ في واحدة من تلك الأزمات التي نعيش فيها الواقع المؤلم. [لكن الآن]، سأفعل ما في وسعي لقضاء بضعة أيام، ثمانية أيام أو ثلاثة أو حتى بضع ساعات قربك، أنت الكائن الوحيد الذي تبقى حياتي معلقة به. في كل مرة أُمسك فيها الريشة لأكتب إليك عن حالي، أخاف؛ أخاف أن أقتلك، أن أدمّر جسدك الهشّ. وأنا، أنا دائماً، كما تعرفين، على مشارف الانتحار. أعتقد بأنك تحبينني بشغف، وبروح عمياء، أنت التي تملكين شخصية قوية. وأنا، أنا أحببتك بشغف في طفولتي. لكن لاحقاً، على وقع ظُلمك، بدأت أفقد احترامي لك، كما لو أن ظلم الأم أبناءها يشرعن ظلمهم إياها. غير أنني، كعادتي، تراجعت عن ذلك في كثير من الأحيان. لم أعد ذلك الطفل العنيف وناكر الجميل. ساعدتني التأملات الطويلة بمصيري وكذلك شخصيتك على فهم كل أخطائي وكل كرمك. لكن على أي حال، ما وقع من سوء بيننا قد وقع، بسبب استهتارك وبسبب أخطائي. مقدّر لنا، بكل تأكيد، أن نحب بعضنا بعضاً. أن يعيش أحدنا من أجل الآخر. أن نقضي، قدر الاستطاعة، حياتنا الأكثر صدقاً ورقّة. مع ذلك، وفي هذه الظروف الرهيبة التي أعيشها، بتّ مقتنعاً أن أحداً منا سيقتل الآخر وأننا، في المحصلة، سنقتل بعضنا بعضاً. لن تستطيعي العيش بعد موتي. هذا أكيد. أنا الشيء الوحيد الذي يجعلك تحيين. وبعد موتك، خصوصاً إذا متِ بصدمة أنا سببها، سأقتل نفسي، بلا شكّ. موتك، الذي غالباً ما تتحدثين عنه بكثير من الخضوع، لن يصلح شيئاً في حالي. سيجتمع المجلس القضائي ولن يُدفعَ شيء ما[من الإرث]، وسأعيش، علاوة على الألم، إحساس العزلة المطلقة.


وداعاً، أنا منهك! وفي ما يخص تفاصيل صحتي، فأنا لم أنمْ ولم آكل منذ ثلاثة أيام تقريباً، وأحس بضيق تنفّس. كما يجب أن أعمل!

لا، لا أقول لك وداعاً؛ لأنني أرغب في رؤيتك!


آه! اقرأيني بتأنّ وحاولي أن تفهميني!


أعرف أن هذه الرسالة ستؤلمك، لكنك ستسمعين فيها، بكل تأكيد، الرقة والحنان، وحتى الأمل، أشياءَ نادراً ما عرفتِها.


وأحبك!


ش. ب.

الأربعاء، 23 مارس 2016

اقتباسات - بابلو نيرودا












كنتُ أتذكّرك وروحي تضيق
بهذا الحزن الذي تعرفين.
أين كنتِ آنئذٍ؟
بين أيّ أناس؟
أيّة كلمات كنتِ تقولين؟
لماذا يداهمُني كل هذا الحب
عندما أشعر بالحزن، وأَشعرُ بكِ بعيدة؟




******



هنا الوحدة حيث تغيبين


******



  هناك، أبعدُ من عينيكِ، تحترق الأمسيات.



******


كم هو قصيرٌ الحب، وكم هو طويلٌ النسيان


*******

ميت هو ذاك الذي يفضّل الأسود والأبيض والنقاط على الحروف بدلا من سرب غامض من الانفعالات الجارفة، تلك التي تجعل العينين تبرقان، وتحوّل التثاؤب ابتسامة، وتعلّم القلب الخفقان أمام جنون المشاعر.


*******


مثل البحر، مثل الزمن. فيكِ يغَرِقَ كل شيء



*******



ميت هو ذاك الذي لا يقلب الطاولة ولا يسمح لنفسه ولو لمرة واحدة في حياته بالهرب من النصائح المنطقية.



*******



ميت هو ذاك الذي يصبح عبدا لعاداته، مكررا نفسه كل يوم. ذاك الذي لا يغيّر ماركة ملابسه ولا طريق ذهابه الى العمل ولا لون نظراته عند المغيب.


******


ميتٌ هو من يتخلى عن مشروع قبل أن يهمّ به، ميتٌ من يخشى أن يطرح الأسئلة حول المواضيع التي يجهلها، ومن لا يجيب عندما يُسأل عن أمر يعرفه.  ميت ٌ من يجتنب الشغف ولا يجازف باليقين في سبيل اللايقين من أجل أن يطارد أحد أحلامه.


*******


- الحقيقة هي ان ليس ثمة حقيقة. لقد متّ، وهذا أمر يعرفه الجميع رغم ان الجميع يخفيه. ماتت الحقيقة ولم تتلق أزهارا. ماتت ولم يبكها احد.


*******


هل ثمة ما هو أكثر بعثا على الكآبة من قطار متوقف تحت المطر.



*******



إنني جائع الى فمكِ، الى صوتكِ، وأهيم في الشوارع دون غذاء، صامتاً جريحاً، باحثاً عن حفيف قدميكِ السائل في أوردة النهار. قبّليني واحرقيني يا امرأة، فأنا ما عشت وما مت إلا من اجل ان تغرق عيناي في مياه عينيكِ اللامتناهية.



*******



أريد أن أعمل معك
ما يعمله الربيع بالأزهار



*******


لقد أمضيت اليوم بأكمله مع صبية سعداء،
رفاق لا يعرفون شيئاً غير الضحك
أحيانا أُعدي من غمر سعادتهم 
ولكني الآن لا أملك شيئا غير الضجر.


*******


 ضوء غرفتي: ضعيف ضوءه
والأشياء تكون بيضاء في شبه العتمة
في غرفتي حزن دائم.
علي منضدتي، بعض كتب مفتوحة
دفاتر زرقاء، أقحوانات ميتة..
أتُري هو المساء البارد الذي يجعلني أشد حزناً؟


*******


آه، يا حبيبتي، لما أحببتك!
في عناقكِ أعانق كل الوجود:
الرمل والوقت وشجرة المطر
وكل ما هو حي يعيش كي أحيا انا
لا احتاج مسافة كي أرى الأشياء،
فيكِ أنت أرى الحياة كلها



*******



أحبكِ مثل النبتة التي لا تزهر
وتخبىء في داخلها ضوء تلك الزهور
وبفضل حبكِ يعيش معتماً في جسدي
العطر المكثّف الطالع من الأرض


احبكِ دون ان اعرف كيف، أو متى أو أين،
احبكِ بلا مواربة، بلا عُقد وبلا غرور:
هكذا احبكِ لأني لا اعرف طريقة أخرى
غير هذه، دون ان أكون أو تكوني،
قريبة حتى ان يدكِ على صدري يدي،
قريبة حتى أغفو حين تغمضين عينيكِ



الأربعاء، 16 مارس 2016

اقتباسات متفرقة / الجزء الثالث







تُدرك الإسلاموية في أعماقها أن تاريخنا لم يكن مجيدا في حقيقته ؛ كما حدث فعلا، لم يكن مجيدا بالدرجة التي يُمكن أن نفاخر به أية أمة في الماضي؛ مهما كان تواضع منجزها الحضاري، فضلا عن أن نفاخر به الحضارة المعاصرة. عن الإسلاموية تعي هذه الحقيقة جيدا، لكنها مع هذا تلجأ إلى التاريخ بعد تزييفه؛ لأنها تدرك أن الآخر في ذلك الزمن الغابر، أي في تاريخه، لم يكن متفوقا بمثل هذه الدرجة الجارحة التي هو عليها الآن، لم يكن متفوقا بمثل هذا الواقع المؤلم الذي يتكرر في كل أوجه التقابل بين الأنا والآخر، والذي تتحطم على زواياه الحادة كبرياء الأنا؛ بعد أن تم شحنها بكل أوهام الكبرياء.

محمد المحمود


********
قد يرى كثيرون أن هذا السلوك التسلطي ، من قبل رجال الدين ، غير طبيعي ، وأنه لم يكن ليحدث ؛ لو كان هناك أدنى ممانعة من عامة الناس . أي أنه جاء نتيجة ضعف المناعة ، وليس نتيجة قوة الهجوم . لا أوافق على هذا ، أنا أراه سلوكا طبيعيا ، خاصة في سياق ظروف كثيرة ومعقدة ، كانت كلها تتضافر لتحقيق هذا الواقع الجهنمي الذي يسحق الإنسان . كل الظروف كانت تصنع هذا الواقع الكهنوتي كواقع طبيعي ، من الجهل ، إلى شهوة التسلط التي تتحكم في سلوك الإنسان البدائي ، مرورا بالمطامع والمنافع التي تتحقق لمن يلتحق بهذا السلك الكهنوتي . والإنسان أسير مخاوفه وأطماعه ! .

الكهنوت ( هناك ، بعيدا ، في أوروبا عافانا الله وإياكم ) أصبح بُنية تسلط وهيمنة تُغذي نفسها بنفسها . أصبح الكهنوت مؤسسة تسير بقوة الدفع الذاتي ؛ لأنها تمتلك ما يسيل له لعاب المرتزقة والباحثين عن المكانة الاجتماعية في وسط اجتماعي عنصري ونفعي ، لا يقيم للإنسان أي اعتبار ؛ ما لم يكن يأوي إلى ركن شديد ، وأي ركن أشد من ركن رجال الدين آنذاك . لم يكن للفرد أي قيمة من حيث هو إنسان فرد مجرد من الاعتبارات الاجتماعية ، وإنما كانت قيمته تتحدد من حيث وضعه في منظومة الكهنوت أو منظومة الفرسان والنبلاء والإقطاعيين . وكان الكهنوت هو البوابة المتاحة لمحدودي القدرات .

المحمود


*********

هذا الإنسان التقليدي الذي يُكوّن الأغلبية الساحقة من مجتمعات التقليد والتبليد ، يهرب من هذه (الضرورة العقلية) المُلحّة -النقد الذاتي- في سياق ظرفه الحضاري الخاص ، لا ليمارس عمليات إيجابية مقاربة ، وإنما فقط ليمارس الدور المضاد : خداع الذات . هروب من نقد الذات إلى خداع الذات . هروب من تشخيص الداء وعلاجه ومواجهة تحدياته إلى الاستشفاء بالأوهام والخرافات . يحدث هذا على مستوى الواقع كما يحدث على مستوى الفكر ، مما يعكس حالة من الإدمان على أسوأ أنواع المخدرات : مضغ الأوهام .

يرفض التقليدي النقد الذاتي بدعوى أنه يرفض جلد الذات . وهذه دعوى مفضوحة ؛ لأن التقليدي أصلا لا يمارس على ذاته أي نوع من أنواع النقد الحقيقي ؛ حتى تصح دعواه بأنه يفصل بين ممارستين مختلفتين : نقد الذات وجلد الذات ، بحيث يقبل إحداهما ويرفض الأخرى .

يعرف الجميع أن المجتمعات التقليدية المنغلقة أو المغلقة مجتمعات غير عقلانية من جهة ، ومجتمعات غرائزية من جهة أخرى . وبما أنها كذلك ، فهي غارقة في التنرجس إلى درجة الغياب التام عن حقيقة واقعها الخاص والعام .


المحمود
*****


لا بد من التأمل والمساءلة لهذا الخطاب الإسلامي العام والإسلاموي الخاص ، في شقيه : النظري والتطبيقي ؛ لأن الإنسان كقيمة لم يطرح فيهما ، لا على مستوى التنظيرات المتعالية ، ولا على مستوى الممارسة التي تمتد فينا وتتجلى في سلوكياتنا في الراهن العملي . لا يكفي أن ندعي الإنسانية ، ولا أن نزعم لأنفسنا أننا إنسانيون بالفطرة ؛ لأنه لا يوجد إنسان يرى توحشه في صورة السلوك المذموم . كل المتوحشين من نازيين وفاشيين وشيوعيين وعنصريين قوميين ومتعصبين دينيين ومجرمين وقطاع طرق ... إلخ وعلى امتداد التاريخ يزعمون ، بل ويتصورون بعمق أنهم إنسانيون جدا ، وأن ما يقومون به ليس إلا جزءا من سلوك الطبيعة التي يفترس بعضها بعضا ، وأنهم يساعدون هذه الطبيعة على تنفيذ قوانينها التي هي في تصورهم أحكم وأعلم وأصلح ، ومن ثمَّ فهي أقدر حتى من الإنسان على فهم المسار الطبيعي للإنسان

المحمود


**********
التكفيريون الطائفيون، يجدون سعادتهم في إشعال فتيل الطائفية؛ لأن هذا سيخلق ظرفا مناسبا للصراخ علانية بتهم التكفير والنفاق والزندقة، أي سيجدون متنفسا للمخزون الهائل من التكفير والكراهية الذي تشبعوا به عشرات السنوات. حتى الحروب المدنية، يسعون لتحويلها إلى حروب طائفية؛ بعيدا عن الوعي بالتداعيات السياسية الخطيرة التي قد تُعرّض لحمة الوطن الواحد لخطر يهدد مستقبل الجميع.


التكفيريون الطائفيون لا يهمهم الوطن حقيقة، بل كل ما يهمهم التمكين للتقليدية التكفيرية التي يعتنقونها. حقيقة، لا يهمهم الوطن، ولو قاموا بالتمثيل علينا، بل حتى ولو شاركوا تمثيلا في جبهات القتال بدعوى الدفاع عن الوطن. التكفيريون الطائفيون يشاركون من مبدأ طائفي، وليس من مبدأ وطني، ولا يهمهم الوطن في قليل ولا كثير؛ بدليل أنهم لم يلبسوا الأزياء العسكرية، عندما كانت المعركة مع التكفيريين الإرهابيين، لم يقفوا آنذاك مع رجال الأمن في نقاط التفتيش الخطرة؛ لأنهم يعون أن الإرهابيين من نفس التيار التقليدي التكفيري الذي يعتنقون مبادئه، ويسعون للتمكين له في الواقع.

المحمود


************
لماذا يفشل رجال الدين في الحكم دائما ؟ ، ولماذا يكون الفشل متناسبا مع تقليدية رجال الدين ، فكلما زاد مستوى التقليدية ( كما كان حال الطالبانيين ) ؛ كلما زاد مستوى الفشل ؟ ، لماذا يكون حكم رجال الدين التقليديين أشبه بالانتحار أو القتل الجماعي لأمة بأكملها ؟ ، لماذا تكون حكومة رجال الدين مصنع أزمات داخلية ، وصدامات خارجية ، وتناقضات خطيرة مع كل العالم ؛ بينما الوظيفة الأولى لأي حكومة ، هي حل الأزمات ، وتجنب الصدامات قدر الإمكان ، وتسوية التناقضات أو إرجاعها إلى حدودها الدنيا ؟



محمد المحمود

******
لدينا من لا يزالون يعيشون عصر الإنسان الخرافي ، عصر إنسان الكهوف . تحدث الزلازل ، وتثور البراكين ، ويعرف ( العلماء ) القوانين العلمية الصارمة التي تقف خلف ذلك . لكن ، العقل الأسطوري الخرافي ، لا يقنعه كل هذا الوضوح ، ولا كل هذا الاتساق الكوني . إنه يريد غموضاً وفوضى ؛ كي تتمدد أفاعيه الخرافية في العقول البائسة التي لم تتأسس على العلم بعد . العقل الخرافي يتمسح بالمقدس ، ويدعي غضب الله على المنكوبين الضعفاء ، ويتوعد من لا يدخل تحت عباءته الإيديولوجية ، بأن مُعرّض لغضب الله .

المحمود


****
جماهيرنا الحالمة ، مثلا ، تريد أن تحيا مفهوم المواطنة بكل استحقاقاته من عدالة ومساواة وحق مساءلة ...إلخ من حقوق يجب أن يتمتع بها كل المواطنين دون تمييز من أي نوع ، بينما هي تريد ، وفي الوقت نفسه ، أن تحتضن ثقافة كتاب « اقتضاء الصراط « ، الجماهير الحالمة تريد أن تعيش ثقافة تسامح وتعايش وإخاء ، بينما هي تريد أن تتمثل ثقافة كتاب « منهاج ...» ، إنها تريد أن تتمثل ثقافة العقل والمنطق ، بينما هي مشغوفة بثقافة كتاب « نقض المنطق « و» درء تعارض العقل « وثقافة مقولة : من تمنطق تزندق ..إلخ

قبل ثلاثة عقود ، كانت الجماهير الحالمة تريد أو تحلم بجمهورية الخميني ، وفق رؤية الخميني ، وبأحلام الخميني ، وشعارات الخميني الأممية ، وفي الوقت نفسه ، تريد حقوق مواطنة الإنسان البريطاني!

المحمود
**********


أهم ما يمكن التأكيد عليه في سياق علاقتنا المأزومة بالغرب ، ما يلي :

1
الغرب لا يفكر فينا ، وليس معنياً بنا بالمستوى الذي نتخيله . بل الغرب أحيانا ، وفي معظم شرائحه ، لا يعرف بوجودنا على ظهر هذا الكوكب ، وإن عرف عرف بالشكل المجمل ؛ لأن تأثيرنا وحضورنا في العالم شبه معدوم . ولولا الأحداث الإرهابية التي صدرت عن بعض العرب وبعض المسلمين باسم الدين وباسم الدفاع عن أوطان العروبة ؛ لما سمع الغرب بنا . ولا شك أن الإرهاب بطاقة تعريف أدخلتنا إلى الوعي الغربي ، ولكن من أسوأ الأبواب .

2
الغرب بمجمله نزّاع إلى الحرية ، وهو لا يتصور أن تكون الحرية منقوصة . وتاريخه يمكن تفسيره بأنه تاريخ تحقق الحرية ، بداية من تأمين لقمة العيش التي لا حرية بدونها ، والتي هي تحرّرٌ من أسْر الطبيعة المتمثلة بضرورات الجسد ، وانتهاء بتحرير الإنسان من هيمنة أخيه الإنسان ؛ بجعل القانون هو الحاكم ، وليس ما يحكم به الأشخاص بالأهواء .

لدى الغربي حساسية شديدة تجاه تدخل الآخرين في حياته ، بل هو لا يتصور أن يحدث ذلك له . ولهذا ، من المستحيل أن تكون تدخلاته العسكرية تتغيا الهيمنة بمفهومها التقليدي ، بل هو لا يعيها إلا من حيث هي تمدد طبيعي للحرية ، وتحرير للآخرين حتى من أسر أنفسهم . وهذا وضع شائك ، يحتاج لمزيد من التحليل الذي يضيق عنه هذا السياق.

3
المرأة الغربية حصلت على كامل حقوقها قانونيا . ومع أنها تعاني من حالات تمييز ثقافية ، حالات يصعب ضبطها قانونيا ، إلا أنها نالت أفضل الحقوق ، مقارنة بوضع المرأة في كل أقطار الأرض . وهذا واضح جدا ، ولا مجال للمقارنة ، فضلا عن توهم التفضيل . *

المحمود



*****************


إن الوأد بكل صُوره يرجع إلى ثقافة إنسانية عامة ضاربة في القِدم، ثقافة انتشرت في حضارات شتى، ثقافة تنتمي إلى أزمنة متوحشة، وأمكنة متوحشة، مُورس على المرأة فيها كثير من صور الاضطهاد والتحقير والنفي، إلى درجة القتل العمد الذي تُلاحق به بعد دقائق من ولادتها. وهذه الثقافة هي التي تُحرّك وتُشكّل وعيَ التقليدي.

إن ما يقود التقليدي، ويحدد سلوكه في هذه المسألة خاصة، هو ثقافة التخلف والتوحش، تلك الثقافة التي تمتد في العمق لعشرات القرون، والتي لم يتحرر منها بعدُ. إنها الثقافة/ الهوية، الثقافة التي تنتمي إليه بقدر ما ينتمي إليها *



المحمود

**********


ليس من الصعب ملاحظة أن العداء للغرب مُستشرٍ بحجم فشلنا الحضاري ، وأنه كلما استفحل الفشل في مكان ما ؛ استشرى العداء للغرب . هناك علاقة عضوية واضحة بين الحالتين !. هذه العلاقة موجودة ليس على مستوى عالمنا العربي أو الإسلامي فحسب ، بل حتى على مستوى العالم أجمع . فبقدر ما يتقدم أي شعب أو تتقدم أية دولة ، تجد أن هناك نِسبة من التصالح مع الغرب ، تتناسب طردياً مع مستوى التقدم . ولعل الصين آخر مثال ، فهي قد غرقت في التخلف يوم أن وضعت نفسها في الاتجاه المضاد للغرب ، وبدأت تتقدم في الوقت الذي بدأت فيه بالانفتاح على الغرب ، أو بدأت تنفتح على الغرب في الوقت الذي بدأت فيه مسيرة تقدمها ، لا فرق . الحقيقة التي يجب رصدها هنا ، هي أن هناك علاقة عضوية بين طبيعة العلاقة مع الغرب، وبين التقدم 



المحمود



*********


في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين كانت الصين مُحيطاً من التخلف الإداري والمادي ، بينما كانت هونغ كونغ جوهرة من التقدم في محيط من التخلف الصيني . كانت الصين تعزل نفسها عن العالم الغربي ، بينما بقوة الاستعمار كانت هونغ كونغ الصينية نافذة للغرب أو نافذة على الغرب . أيضا. ولك أن تتأمل حالة إيران في حقبتين : حقبة ما قبل الخميني ، والحقبة الخمينية . إذ رغم سلبيات العهد الأول ، يبقى أن الانفتاح في عهد الشاه كان يحقق لإيران كثيرا مما لا تستطيع أن تحلم به الآن . لك أيضا أن تتأمَّل دولا تدخل في إطارنا الثقافي ، وتتباين فيها درجة قبول الغرب ورفضه ، كمصر مثلا ، ستجد أن البيئات المنفتحة على الغرب هي الأكثر تطورا ورقيا إنسانيا ، بينما البيئات التي تستمد وعيها من خرافات التقليديين هي البيئات الأشد عداء للغرب ، وفي الوقت نفسه ، هي الأشد تخلفا وكفرا بحقوق الإنسان . *




المحمود



*********





دون إحساس مشترك بالعدالة لن يكون لروابط الحياة المدنية وجود .

جون رولز



*********


إننا كلنا قابلون لأن نخطئ ولأن ننادي بارتكاب الخطأ، النظرة التي تقول إنني قد أكون على خطأ وقد تكون أنت على صواب، وأنه ينبغي عليّ أن أعلّم نفسي كيف لا أنخدع بذلك الشعور الغريزي الخطير، أو تلك القناعة التي تملي عليّ الشعور بـ «أنا من هو على صواب دائماً». فإن عليّ أن أحذر هذا الشعور مهما كانت قوته. ذلك أنه كلما كان أكثر قوة، كان الخطر الكامن في إمكان أن أخيّب ظن نفسي بنفسي أكبر... ومعه خطر ان أصبح أنا نفسي متعصباً غير متسامح.


كلنا هشّون وميّالون لارتكاب الخطأ. لذا دعونا نسامح بعضنا بعضاً، ونتسامح مع جنون بعضنا بعضاً في شكل متبادل. وذلكم هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة. المبدأ الأول لحقوق الانسان برمتها.


الغاية الأساسية هي التمكن من العثور على الأخطاء وتصحيحها بأسرع ما يمكن، أي قبل أن تتسبب في المزيد من الضرر. من هنا تكون الخطيئة الوحيدة التي لا تغتفر هي خطيئة التستر على خطأ من الأخطاء. وعلينا أن نزيل الدوافع التي تؤدي الى مثل هذا التستر. وهذه الدوافع كانت قوية جداً بفعل تأثير الأخلاق القديمة .علينا أن نتعلم ان النقد الذاتي أفضل.



إن النظرية التي لا تكذبها أية واقعة من الوقائع ليست نظرية علمية ,ومعنى ذلك أن اليقين المطلق ليس فضيلة علمية .

إن الاختبار الحقيقي للنظرية هو ذلك الذي يسعى لتفنيدها ,إن التحقق العلمي هنا لا يعني شيء آخر غير التفنيد أو التكذيب.

إن التحقق لا تكون له قيمة علمية إلا إذا جاء نتيجة للمغامرة في البحث عن النتائج غير المتوقعة أو الوقائع التي لا تنسجم مع توقعات النظرية والتي تفندها .


كارل بوبر