الجمعة، 26 فبراير 2016

مقتطفات من كتاب - رأس اللغة جسم الصحراء لأدونيس 6



معظم العرب الذين كتبوا عن ادوارد سعيد , ممن أتيحت لي قراءتهم , يصدرون في كتاباتهم عن نظرة تعسكر الفكر : لا تراه إلا بوصفه وظيفة نضالية , وبوصفه انتماء وانحيازا . إنها تنويع آخر على عسكرة الشعر والأدب والدين . وهي بذلك تؤكد على أن الثقافة العربية , وفقا لمنطقها , نوع آخر من الحرب . إنها نظرة لا ترى العربي إلا محاصرا - عبدا , بين حدين : حد الانصهار في "الجمع" , في " الأمة" , وحد الانفصال عن " الآخر" , "الغريب" , "العدو" . أهي بدائية تُلبسنا إياها الحداثة الأجنبية "الغازية" ؟ أهي مركزية الانطواء والانغلاق , نقابل بها مركزية التوسع والاجتياح؟

هكذا لا يكون الفكر العربي , إذ يخضع لهذه النظرة , مسألة إبداعية , على المستوى الإنساني الكوني , وإنما يكون بالأحرى مسألة "انتماء" و"ردود فعل" , و"تبجح" على مستوى "الزاوية" .


280
ضد الثقافة المؤسسية السائدة في المدارس والجامعات والحياة العامة , هذه الثقافة شوهت الشعر العربي بسطحية نظرتها , وابتذاليتها , وتقليديتها , مما ولد هوة كبيرة بينه وبين الذائقة الفنية عند الأجيال العربية الطالعة.

كانت نقطة الارتكاز , بالنسبة إلي , هي أن الحداثة الشعرية العربية ليست قطيعة مع الشعرية العربية , أو التراث , وإنما هي , على العكس, تنويع يصل في بعض ظواهره , أحيانا , إلى أن يكون شكلاً من أشكال الاستئناف . فالقطيعة مستحيلة : إذ كيف يمكن أن نلغي نهراً لا نزال نسبح في مائه ؟ ولئن كنت قد تكلمت شخصيا على القطيعة مع الماضي , فإن ذلك جاء في سياق مختلف , وكانت له تبعا لذلك , دلالات مختلفة , فالماضي شيء , والشعر شيء آخر . الشعر لا يمضي , وإنما هو حضور دائم .

هكذا فرضت تجربة الحداثة أمرين :
-
إعادة النظر في الشعر العربي , لفهمه فهما حديثا.
- إعادة النظر في أشكاله وطرائق تعبيره لابتكار أشكال جديدة , وطرائق تعبير جديدة .


286

كانت الفتاة التي تحبني , تنتظرني دائما في مكان عالي , لا يبعد عن حدود السماء , إلا بضع خطوات من بيتها.

في الحب , اكتشفت أن للقمر سلطانا علي , أنا أيضا . وأن لليل أبوابا ونوافذ لا يفتحها إلا لمن يعرف كيف يقيم عروشه الحميمية الخاصة في المخيلة وفي الأحشاء وشهواتها .

انظر كيف تكنس العاصفة الغبار عن الدروب إلى الحب .


290

أتذكر كيف كنا , نحن أبناء جيلي , شيوعيين وبعثيين وقوميين , نسكن ونعمل معاً في الكتب لا في الحقول , ونسير ونحيا بين الكلمات لا بين الناس . كيف أعطينا طاقاتنا كلها , لكن للفراغ, كيف كنا نغلق عقولنا , ونفتح أفواهنا . كيف كانت متاجر الذين حاربناهم أكثر إشعاعا من مدارسنا وأكثر فاعلية . كيف كانت كتبهم أوسع معرفة من كتبنا . وكيف أننا لم نقبض إلا على الريح , فيما قبضوا ويقبضون على الأرض . حفلة سمر حقاً! , لم نكن نعرف حتى معنى الكلمات التي كنا نتغنى بها . هكذا فاتتنا اللغة , وفاتتنا الحياة .

298 , 299



قبر الماضي عندنا بيت للحاضر.
وما أكثر الجدران التي تلتطم رؤسنا بها .

-
منذ فترة طويلة , وضعت الأنظمة العربية شعوبها على طريق السقوط . وهو سقوط يتواصل الآن بسرعة وقوة . لم يعد هناك , أمام هذه الأنظمة أي مكان عال . لم تعد هناك غير المنحدرات
ولقد التهم الماضي , الديني على الأخص , لغتنا . وها هو آخذ في التهام أفواهنا وألسنتنا . ولم تعد , فيما يبدو , بعيدة تلك اللحظة التي يلتهم فيها وجودنا نفسه .

إلى ذلك نحن اليوم عاجزون حتى عن الاعتراف بضعفنا , وعن نقد ما قلناه وفعلناه , خصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم. ولئن كان العربي غير قادر على الكلام , كما يفترض بالإنسان أن يتكلم , أعني بحرية كاملة ومسؤولية كاملة , فكيف يكون قادرا على الفعل , كما يفترض بالإنسان ان يكون ؟

لماذا يحب العربي , بعامة, والسياسي بخاصة , البلاغة ؟
ربما لأن في البلاغة تعويضا عن الدفين , الحميم الذي يتعذر الإفصاح عنه .
ربما لهذا كذلك , صارت الهوية السياسية العربية هوية لغوية بلاغية .

303 , 304

كلا ليس من التدين , فكريا وإنسانيا , إلغاء الرغبة في اللاتدين.

304

يخطر لي أن أتسأل : متى تجيء اللحظة التي يعيد فيها الكاتب العربي النظر في كتابته , ويسأل نفسه " "ماذا كتبت ؟ ماذا أكتب ؟ هل تعرّش لغتي على شجرة السياسة وتقاليدها , أم أنها تفتح حقولا أخرى , وتؤسس لسياسة أخرى ؟ هل أسير وراء الزمن لكي يفهمني الجمهور ويصفق لي , أم أنني أحاول أن أفتح زمنا آخر للكتابة ؟ هل أتماهى مع الواقع , لكي أبقى في كنف المصلحة والفائدة , أم أزلزلة لكي أقدر أن أرتقي إلى رؤية الإنسان في طاقاته الخلاقة , وفي قدرته على التغيير والبناء ؟ هل أكتب لكي أصل لكرسي أجلس عليه , وأطمئن إليه , أم أكتب لكي أظل قادرا على السير , متقدما , صاعدا ؟
ولماذا تزداد ظلمة العالم الذي أنتمي إليه ؟
ولماذا أكاد أن أصير أنا نفسي جزءا من هذه الظلمة ؟



نظرياتنا كلها , وممارساتنا كلها , على امتداد القرن العشرين المنصرم , لم تؤسس إلا لشيء واحد :كتابة المستقبل بحبر الماضي!
 السبب في هذا الصدد , لا ينحصر في الطغيان , بمختلف أشكاله , وإنما يتجاوزه . إنه في التاريخ , وفي "بنية" الفكر. ولم يفدنا اللجوء إلى الحلم , ولم يفدنا الهرب من الواقع , باسم "الخطة" , أو باسم فن "التعبئة ".


306 , 307

من الطبيعي أن يكون الخلاقون في مختلف الميادين هم الذين يعيدون النظر جذرياً , وعلى نحو متواصل , في حياتنا السياسية , والاجتماعية , والثقافية , بعامة , وفي حياتنا الفنية - الإبداعية , بخاصة . وطبيعي أن "يدفعوا" ثمنا كبيراً , لقيامهم بهذه المهمة الكبيرة .

هكذا أعترف أنني أحيانا أضعف , ويغريني التراجع , قائلاً في ذات نفسي : لماذا أعرض حياتي لحرب عنيفة يشنها علي الآخرون , وقد تكون قاتلة؟

أضعف وأتساءل : لماذا لا أعيش وأكتب في سلام كامل , كمثل غيري , لهذا "السطح" العربي السياسي والأكاديمي والديني والاجتماعي , المليء بـ"جاذبيات" من كل نوع , وبـ"إغراءات " ضخمة؟

هكذا أدخل بيت الطاعة
لا أثير أية مشكلة
لا أتخذ أي موقف
وأرفض أية مغامرة حتى في ميدان نتاجي الخاص
ولا يكون لدي أية "جحيم"
لا يكون لدي غير "الجنة".


307, 308


الكائن الذي هو أنا , والذي يحيا ويفكر في ظل السياسة العربية , ليس هو أنا في الحقيقة , إنه شخص آخر فيّ: شخص الجماعة وتقاليدها الفكرية المهيمنة . أو لأقل : إنه شخص الرقابة في الحياة العربية مجرد ممارسة سلطوية , وإنما هي جزء عضوي من هذه الحياة ومن ثقافتها .

العربي - المسلم , اليوم , هو تحديدا رقيب .
لكن لنحلم جميعا بقيام رقابة من نوع آخر : منع البطالة والفقر والهجرة والقمع والطغيان بمختلف أشكاله , منع المستشفيات من أن ترفض استقبال المرضى , بحجة أنهم لا يقدرون أن يدفعوا ثمن هذا الاستقبال , منع الفقراء والمحتاجين من أن يتحولوا إلى لصوص أو إلى مرتشين لكي يقدروا أن يعيشوا , ويعيلوا أطفالهم , منع الطاقات المفكرة , المبدعة من ترك بلدانها إلى بلدان أخرى , طلبا للحرية , وبحثا عن الحياة الكريمة , منع عزل المرأة وحرمانها من الدخول الكامل إلى الحياة العملية والسياسية والثقافية , الخ الخ

308 , 309

كتب كثيرة للقراءة لكن , أفضل أن أنام على أن أقرأ كتاباً لا يوقظني .

313


ما أغرب حياتنا العربية : الموتى الذين يبعثون فيها , أكثر من الأطفال الذين يولدون .

317

-
تاريخ
يتصاعد الدخان من فمه ويديه وعينيه .


-
وطن من الألفاظ
جدرانا وحقولا , طرقا وأنظمة .


-
لا تظنوا أن العرب استقلوا عن العالم .
العالم استقل عنهم .


-
جاء الظلام وجثم على كل شيء.
لماذا يتأخر الضوء ,
لماذا لا يجيء؟


-
أغبطك , أنت المرهق , المضطرب
يا من تتابع السباحة نحو الضوء, في هذا المحيط من الظلمات .

318 , 319


لا أشعر أن الثلج منفى.
لا أشعر أنه يجيء من بلاد نائية , أو بلاد مهجورة ومنسية .
مع ذلك , أشعر كأنني أتزلج في عربة يقودها هو نفسه , في أحضان اللاشيء .
ترافقنا تلك العائلة التي لا تفنى :
الأب الليل , الأم الفجر , الأخوة : الصمت , الليل , النهار.
الأخت : الشمس.

لا يسقط الثلج عموديا . يسقط متعرجا .
في خيوط متقطعة تتمايل مقطورة بيدي هواء ناعم.
الهواء هنا نقيض الريح:
ابن يحارب أباه . يا للعقوق الجميل!

لحظة , يخيل إليّ فيها , برحمة الثلج وعفوه ,
أن السماء تنزل على درج الغيم لكي تعلن وحدتها مع الأرض ,
أن السماء تجلس على الأرض , تنام على الأرض ,
أن السماء تتدثر ثوب الأرض ,
أن السماء تراب آخر.

ويخيل إليّ , برحمة هذه السماء وعفوها ,
كأنني أنهض من وراء مكتبي ,
أحمل جسدي خفيفا كندفة ثلج ,
وألقيه من نافذتي إلى الهواء والضوء.


وفيما أنظر إلى الثلج وأصغي إلى موزار
أشعر كأن شكي ليس إلا يقيناً.
لكن , ها هو صدري يضيق :
افتح لي , من جديد , أيها اليقين , أبواب الشك.
كلا , لا أطلب , وإنما أسأل :
من يفتح لي , من جديد , أبواب الشك ؟

325 , 326


الإفراط في فرض اتجاه فكري على المجتمع لا يؤدي إلا إلى الإفراط في التمرد عليه . والأفكار التي تفرض بالقوة , وتعمم بالقوة , لا تكون موضوع إيمان , بالنسبة إلى معظم العاملين في حقول الفكر والأدب بقدر ما تكون موضوع خوف . هكذا تهيمن شكليا , وسطحيا . وتفقد فاعليتها ومعناها . الأفكار الخلاقة الفعالة هي التي تولد حرة , ويستجيب لها الناس بحرية , من دون ترغيب وترهيب.

330 , 331

إننا لا نجد في الذائقة العربية السائدة , فكراً وأدباً وفناً , ما ينفتح على طاقات التجريب , أو يشجعها , ذلك أن التجريب يضمر المغامرة والاضطراب والخطر . فهو حرب باللغة على سبات الأشياء والأفكار , تزعزعها , مخرجة إياها من مدارها الهادئ , اليقيني . وهو كذلك حرب داخل اللغة نفسها . وهذه الذائقة تميل , على العكس , إلى الهدوء , والطمأنينة , والتعقل , إنها ذائقة حدود ثابتة , وقواعد راسخة . ألهذا لا نجد في العالم , اليوم , ثقافة موقنة , واثقة , كمثل الثقافة العربية ؟

332

امرأة - عندما أنظر إليها
تقاتل يسراي يمناي ,
وتغار عيني من عيني.

334

مقتطفات من كتاب - رأس اللغة جسم الصحراء لأدونيس 5



رجال الاختصاص الكبار في علم السلطة والسياسة مدعوون إلى دراسة إنجاز عربي ضخم في مجال هذا العلم , حققه الساسة العرب , يضاف إلى مختلف إنجازاتهم الأخرى . يتمثل هذا الإنجاز في تحويل النظام "الثوري" , "الديمقراطي" , إلى نظام ملكي , وراثي , عائلي , "إقطاعي" , يتم بانتخابات شعبية حرة.

ومن المؤكد أن التاريخ سيحفظ لهؤلاء الساسة في سجلاته حقوقهم الكاملة في هذا الإنجاز , ولن يتردد في إعطائهم براءة اختراعه.

200


ارسم مثلث على دفترك , حدق فيه , وأنت تتكلم على السياسة العربية , والوضع العربي , وسوف ترى أن هذا المثلث يتحول إلى دائرة.
 
202

في فلسطين نجد ألفباء هذه الثقافة الحية . إنها عقدة اللقاء-الصراع بين دينين -شعبين , يقول وحي كل منهما لكل منهما : "أنتم خير أمة".

 في ضوء هذه الأخوة الدينية , أو هذه " الأبوة الإبراهيمية" , المريرة , الفاجعة , الدامية , الاستئصالية , يمكن أن تقال أشياء كثيرة , متنوعة , ومتناقضة .

من جهتي , سأقول ما يبدو لي أنه الأكثر إضاءة , وإن لم يكن الأقل تناقضا .

أولاً , عن الحرب بين الإسلام وأعدائه "الكفار" , سأقول إنها حرب خاسرة . والخاسرون طبعا هم المسلمون . يتعذر على المسلمين اليوم عدة وعتادا , مؤسسات وقيادات , وفي غياب شبه كامل لشروط الحرية , والبحث , والتقدم العلمي , أن ينتصروا على أعدائهم . لسبب بسيط واحد مباشر , بين أسباب كثيرة بالغة التعقيد , أصوغه بتبسيط كما يلي : لا أستطيع أن أتغلب على عدوي بأسلحة هو الذي يصنعها ويمتلك القدرة على تطويرها , وهو نفسه يقدمها لي , مقابل ثرواتي. ولن تكون الحرب إلا حرب استنزاف لطاقات المسلمين المعنوية والمادية.
ثانيا , عن الحرب الإسلامية - الإسلامية , سأقول إن ثمة واقعا اجتماعيا -ثقافيا - حضاريا يعيشه المسلمون أنفسهم , يجعل عودتهم إلى نظم الإسلام الأول ومؤسساته , أمرا مستحيلا على جميع الأصعدة .

وليس مرد ذلك إلى أن المسلمين فقدوا إيمانهم بالإسلام , وإنما مرده إلى أن حياتهم أصبحت أكثر تعقيدا واتساعا وغنىً وتنوعا من أن تتطابق معها أو تلبيها "الصورة" التي رسمها للإسلام فقهاؤه الأوائل . فمشكلات هذه الحياة وتطلعاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية لا تعالجها فتوى من هنا , وموعظة من هناك . لا بد لها من نظرات ودراسات علمية متخصصة , وشاملة , تستند إلى رؤى وأسس معرفية كونية . هكذا يتحتم على المسلمين , إن كانوا يريدون النهوض حقا , والمشاركة في بناء العالم , أن يخرجوا من الخطاب الشائع الذي بدأه الأفغاني , والذي ينادي بالعودة ألى الدولة الإسلامية القديمة . فأية دولة هي هذه الدولة ؟ أهي حكومة المدينة ؟ أهي الخلافة الراشدية ؟ أم هي الدولة التي أسسها معاوية ؟

207 , 208

ألن يذهب المسلمون , أخيرا ً , في تساؤلاتهم وتحليلاتهم , إلى أبعد من المظهر والسطح ؟ ألن يروا أخيراً , كيف أن بلدانهم ترسم بينها وبين عالم التقدم , حدود التخلف - الأمية , والبطالة , وغياب الحريات , والاستهتار بالإنسان وحقوقه ؟ كيف أنها ترسم كذلك حدود الحروب ؟


كل شيء في العالم الإسلامي متناقض , متنابذ , متناحر , مغلق . وعلى الوعي الإسلامي أن يرتجف خجلا ورعبا من رؤية العالم الإسلامي في تحوله إلى إرهاب , وقتل , وجثث , ومقابر , في عالم يصفه بأنه "كافر" يتحوّل على العكس فيما وراء سياساته العدوانية , إلى شموس , ومنارات , وآفاق معرفية بلا نهاية.

210


تؤكد التجربة أن الثقافة التي لا يعاد النظر فيها , بأصولها ومشكلاتها , تحليلا ونقداً , تظل جامدة , مغلقة , وأن إعادة النظر , اليوم , إنما هي ضرورة قصوى . خصوصا أن الصورة التي ترسمها النزعات الأصولية الدينية عن الثقافة العربية والحياة العربية , ليست تشويها وحسب , وإنما هي نوع من "الإهانة ", و"التحقير" لتاريخ من الإبداعات العربية في جميع الميادين , أسهمت في بناء العالم الحديث . عدا أنها صورة لا تستند إلى المجادلة الحسنة , وإنما تعتمد على أساليب ترغيب وترهيب ليست في حقيقتها , إلا عنفا.
 
212


أخطر ما في الأصوليات , هو أنها توحد بين الإيمان والمعرفة , مغلبة "ثبات" الأول , على "حركية " الثانية وتحولاتها . هكذا يفقد الإيمان توهجه وطاقته , لأنه يتحول إلى تقليد جامد , وتنتهي المعرفة لأنها تتطابق مع هذه التقليدية , وتتحول إلى نوع آخر من الجهل : تنفصل عن تغيرات الواقع والعالم , وبذلك تنفصل عن الإنسان نفسه.

وما تكون في هذه الحالة , قيمة ثقافة تؤسس لها هذه الأصوليات , تنبذ العلم والفلسفة والشعر والتصوير والنحت والموسيقى , وتحتقر الجسد , والطبع والطبيعة والمخيلة والحلم ؟

212


الحق أن الأصولي لا يفكر , وإنما يفكر عنه النقل أو التقليد . أو لنقل : أنه يعيش في نظام فكري يعفي الإنسان من التفكير.

ألا يبدو أن كل شيء في الثقافة التي ترسخها الأصولية وتعممها , يشير إلى أن الإنسان هو في آخر الدرجات من سلم القيم , ويؤكد على أن معيار قيمته ليس في كونه إنسانا , وإنما في كونه "مؤمنا" أو "كافرا" أو أن قيمته ليست في "ماهيته" بل في "صفته" ؟ أليس في هذا , أخيراً , ما يسوغ المذابح والمجازر البشرية , وما يدفع إليها , وما يزينها ؟ ومن أين لهذا كله أن يكون في خدمة الإسلام ؟

213 214
من التبسيط إذاً , وعدم الدقة القول إن "حماس" مجرد مجموعة من المتشددين المتطرفين . إنها أكثر من ذلك بكثير . إنها أحلام تاريخية , ومخيلة دينية , وتطلعات مكبوتة لا تعترف بواقع أو بحد , وهي تصور مقفل على حقائق تعدها حقائق العالم الكاملة والنهائية .

وقد يمكن التغلب عليها بوصفها "سلطة" , لكن يتعذر التغلب عليها بوصفها ظاهرة انفجار اجتماعي-ديني, إلا إذا تم التغلب على الأسس التي أنتجتها , وأنتجت قبلها ما يشابهها . والذين يحاربونها يهملون هذه الأسس , ويحصرون همهم في القضاء عليها بوصفها "سلطة" . وليس هذا إلا استمرارا في علاج أثبتت التجربة التاريخية , ماضيا وحاضرا أنه لا يجدي. بل أثبتت أن هذا العلاج قد ينقلب إلى نقيضه , ويتحول هو نفسه إلى داء آخر .

لا أريد أن أقدم أمثلة من الماضي , وأكتفي بأن أقدم مثلين بارزين من الحاضر : النتيجة التي وصل إليها نظام صدام حسين : قتل "سلطة" الطوائف , وعجز عن القضاء على الظاهرة نفسها, ظاهرة الطوائف. وقبله , نظام عبد الناصر في تعامله مع "داء" سيد قطب الذي سجنه وقتله . وهاهو الآن عبد الناصر بلا وريث , ويزداد أفولاً , بينما ورثة السيد قطب يهزون بنية المجتمع المصري , ويزدادون حضورا وقوة

بنى كل من عبد الناصر وصدام حسين , على ما بينهما من الفوارق الكثيرة المتنوعة "سلطة" , لكنهما لم يبنيا مجتمعا , وهذا ما يمكن قوله عن الحكام العرب , طوال القرنين الماضيين . والحق أن تاريخ العرب في هذه المرحلة كلها لم يكن تاريخ علوم وفنون وتقنيات وحريات وتقدم , وإنما تاريخ صراع على السلطة , وتاريخ تمزقات وتراجعات وانهيارات وهو تاريخ لا يزال متواصلاً.

ص 216 , 217

حماس – فتح : ثنائي يوضح انشطار المسلمين العرب , المحتمل أو الممكن . انشطار حاضر يختزن انشطار المستقبل . فكما كشفت فلسطين , بوصفها "قضية " عن تشتت العرب وعجزهم , فإن انشطار الفلسطينيين يكشف عن انشطار الواقع العربي . قد تكون "قلوب" المسلمين إلى جانب حماس , ومن المؤكد أن "عقولهم" ليست كلها إلى جانب "فتح" . وفيما تبدو "حماس" ماضيا يبتلع الحاضر , تبدو "فتح" حاضرا يبتلعه الماضي.

في ذلك ما يحتم على "فتح" إن كانت تريد أن تخرج من "منطق" "حماس" , أن ترفع مستوى الصراع معها , وأن تتمحور حول بناء المستقبل , لا حول استعادة الماضي . ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتأسيس لمدنية فلسطين , ومدنية المجتمع الذي تعمل على بنائه . وبهذا وحده تقدر أن تخرج من "الوهم" و"الالتباس", ومن العنف الذي يتولد منهما , وتقدر , تبعا لذلك , أن تضع أسساً جديدة لمجتمع جديد , وقيم جديدة , وأن تبني حاضرا مختلفا بوصفه نواة ومقدمة لتاريخ آخر مختلف.

دون ذلك , لن تكون "فتح" , وإن انتصرت سلطويا ً , تحت التاريخ وحسب , شأن الأنظمة العربية , وإنما ستكون كذلك , موضوعيا , "مقيمة" , بشكل أو آخر , في "دار" العقلية الدينية الماضوية , وايدولوجياتها , واستيهاماتها .

218 , 219

يتاح لمن يزور البلدان العربية , اليوم , بوجهيها الآسيوي والأفريقي , أن يتأكد من أن هذه البلدان تتقدم كثيرا في اكتساب حداثة الأشياء , وتتأخر كثيراً في تحقيق حداثة الإنسان.

هذه مفارقة لا تصدم العقل وحده , وإنما تصدم كذلك الحياة برمتها . هكذا يعيش العربي مشطورا : نصفا في جنة الحداثة , ونصفا في جحيمها.
 
227

_حول إيران_

لا يصح أن نماهي أو نوحد بين "حقيقة" الشعب , وحقيقة السلطة , أو النظام , كما يفعل بعضهم , وأن نطلق من ثّم أحكاما عامة قاطعة , ونبني صورة واحدة مقولبة . ففي ذلك , لا نسيء الفهم وحده , وإنما نشوه الواقع كذلك.

هناك جزء كبير ومتنوع , من الشعب , وعلى الأخص في الوسط الطلابي الجامعي , وفي الأوساط الشعرية والفنية والفكرية , يفكر في استقلالٍ عن السلطة وثقافتها , وفي تناقض معها غالبا . وهو , إذا , لا يرى نفسه في السلطة , ولا ينظر إليها إلا بوصفها قائمة على آلية لا ترتبط بـ "جواهر" , إنما ترتبط بـ"أعراض" و"ظروف" . ويرى تبعا لذلك , أن المشكلة الرئيسية في هذه السلطة تنبع من "التاريخ" ذاكرة وثقافة , وليس من الإنسان نفسه - إبداعاً وتطلعا .

232




فيما يتجاوز المسألة الإيرانية , ليس هناك ما هو أشد قسوة وأكثر مدعاة للغضب والحسرة معا , من أن يرى الإنسان تراثه الذي تعلم فيه الحرية والنقد والتساؤل والإبداع , يتحول إلى عالم من السجون والسلاسل - في الحياة والفكر.

وليس هناك ما يعبر عن المرير والفاجع في حياة الشعب كمثل ما تعبر الحالة التي يرى فيها الإنسان كيف تحول السلطة "حقه" إلى باطل , و"نوره" إلى ظلام , و"حياته" إلى موت متواصل - بتأويل ديني , أو باستراتيجية سياسية تنهض على الدين.

كيف نقنع إذا السلطة "الإسلامية" بأن من العبث والمستحيل أن تكون في آنٍ , سياسة ودينية؟
كيف نقنعها بأنها لا تستطيع أن تكون سياسة , إلا إذا كانت حرية , وكان فيها لتعدد الآراء محل ودور؟
كيف نقنع السلطة بأن الاستعباد لا يمارسه إلا المُستعبد سلفا, وأن الحر هو من يحرر , ومن يعلم الحرية؟

233

على المؤمنين - دينيا , أن يتدارسوا , في ضوء هذه التجربة التاريخية , وفي ضوء التقدم الإنساني , مسألة العلاقة بين الدين والسلطة , إذا كانوا حريصين فعلاً على الحضور الكريم للدين - إنسانيا , وحضاريا . خصوصا أن هذه العلاقة تزداد , فيما يتعلق تحديدا بالإسلام , التباسا وتعقيدا , وأنها علاقة تتجسد في الإكراه والاستئثار والطغيان , أكثر مما تتجسد في الحرية والمساواة .

234
كتبت مراراً عن الرقابة , قلت عنها بين ما قلته إنها تضمر محاولة للعودة بالإنسان إلى ما قبل الكلام وإلى ما قبل الكتابة , إلى اختصار الأبجدية كلها والثقافة كلها في التصفيق للسلطة . وتساءلت مراراً : ما قيمة سلطة تكون هي وحدها الناطقة , حتى لو هيمنت على ملايين البشر البكم؟

ما قيمة سياسة تسوس الحجر , تسوس شعبا لا يحق له الكلام إلا إذا أذنت له ؟

ما قيمة الرقابة , ما جدواها , خصوصا اليوم حيث يعرف كثير من الناس ما لا يعرفه كثير من أهل السلطة , حيث لم يعد أي شيء خافيا. صوت الكون يتردد اليوم في كل بيت .

فلماذا الاستمرار في رصد الأموال الضخمة , وإقامة المؤسسات الضخمة , وتوظيف الأعداد الضخمة من كتاب التقارير للقيام بعمل لم تعد له أية فائدة , بل أصبح علامة على الفساد والإفساد , وعلى التخلف وعلى الإقامة خارج التاريخ؟

241 ,242

في أي لقاء مع السوريين عمالاً وفلاحين , كتابا ومفكرين , أطباء ومهندسين , معلمين وأساتذة جامعيين , إعلاميين وصحفيين , نساء ورجالا , تبدو ملامح كثيرة تدل على التفوق والتفرد , وتشير إلى توقهم المتلهف للخلاص من الظلم , ولسيادة القانون والعدالة وحقوق الإنسان وحرياته , ولا يخفي أحدهم استنكاره الكبير , الغاضب لهيمنة الفساد ,فهو من الحضور الساحق , على كل مستوى , حتى ليبدو أنه القاعدة , وأنه ماء الحياة اليومية وهواءها

المعارضات في المجتمعات المتقدمة هي المحرك الأساس لمزيد من التقدم . وغياب المعارضة في المجتمعات المتخلفة كمثل مجتمعاتنا العربية , دليل موت مزدوج : موت السياسة على مستوى النظام , وموت الحركية الخلاقة على مستوى الحياة الاجتماعية . فالمجتمع الذي لا معارضة فيه , سياسية وفكرية , على الأخص , مجتمع لا حياة فيه . مجتمع - مقبرة.

وهذا مما يفرض على المعارضة مسؤولية سياسية وأخلاقية عالية , تميزها عن النظام الذي تعارضه , بحيث لا يصح , في أي حال , أن تقوم المعارضة بممارسات تقوم بها السلطة التي تعارضها . ذلك أن أبسط المبادئ التي تقوم عليها المعارضة في أي مجتمع هي التفكير والسلوك بطرق أكثر فاعلية ونزاهة وعدالة في إدارة شؤون المجتمع , وفي احترام الإنسان وحقوقه - من أجل تحقيق حياة أكثر جمالاً , وأوسع حرية . من دون ذلك , لن تكون المعارضة إلا امتدادا لأهل النظام - أعني طرفا آخر في صراع المصالح والأغراض والمنافع

ما لفرق مثلا , بين أن يضعك النظام في السجن لأنك معارض له , وأن تتهمك المعارضة بأنك عميل لهذا النظام أو خائن أو طائفي على الرغم من جميع ما أنزله بك هذا النظام نفسه ؟ إن مثل هذا الاتهام أشد هولاً وأكثر استهتارا بالإنسان وحقوقه من السجن نفسه . ذلك أن السجن قيد مادي محدود , في حين أن هذا الاتهام نوع من "الحصار" , بل أنه نوع من القتل .

أفلا تكون المعارضة في مثل هذه الحالة فاتكة بالإنسان وحقوقه كمثل النظام , وربما أشد فتكا؟

255 , 256 ,257
إن الحق في المعارضة يجب أن يكون مسألة بنائية تأسيسية تقوم في أساس الممارسة السياسية , وفي أساس الرؤية السياسية - الفكرية , عند جميع الذين يؤمنون بالديمقراطية والتعددية والتنوع , وبالإنسان وحقوقه وحرياته , وما يمارسه , اليوم, بعض "المدافعين عن حقوق الإنسان" في سورية خصوصا , والبلدان العربية , بعامة , من "تخوين" لكل مختلف عنهم في الرأي أو النهج , إنما هو متابعة وترسيخ لذلك الخطأ التأسيسي , وتوكيد وتسويغ لممارسات الإقصاء والإلغاء والتهميش التي تقوم بها الأنظمة العربية كلها . وأسأل هنا : ما الفرق , إذا, بين الحاكم والمعارض ؟ وعلى هذا المستوى , تحتاج الحياة السياسية العربية برمتها , يمينا ووسطا ويسارا , إلى نقد ذاتي جذري وشامل , لكي تسترد هذه الحياة نفسها من جهة , ولكي تسترد , من جهة ثانية , حيويتها , وفاعليتها , ووجهها الإنساني .

258



تكفرك السلفية لأنك تكتب عن الحداثة , وتكفرك الحداثة لأنك تحرص على معرفة المنطق "السلفي" , والعقلية السلفية , والفكر السلفي . إنها البنية العقلية التكفيرية ذاتها التي قادت الثقافة الإسلامية بسيفين : سيف التحليل , وسيف التحريم . وهي ثنائية دمرت الحياة الثقافية العربية .

نحلل الكلام على هذا الفكر أو هذا الشخص , ونحرمه على ذلك الفكر , أو ذلك الشخص . وليست السلطات هي وحدها التي تمارس هذا التحليل والتحريم , وإنما يمارسه كذلك المفكرون وأصحاب العقائد . فعلت ذلك الأحزاب اليسارية والأحزاب القومية . كان مجرد ذكر ماركس أو لينين يعد انحرافا و "جريمة" في الأوساط القومية , وكان مجرد ذكر أنطون سعادة , يعد هو كذلك انحرافا وجريمة في الأوساط الشيوعية واليسارية , وفي الأوساط العروبية .

وهذا مافعلته الناصرية -السلطة في مناوئيها . ومافعله حزب البعث -السلطة في مناوئيه , وهذا مافعلته الجماهيرية العظمى .....الخ

وها نحن اليوم نتابع هذا النضال "الفكري" بفضل المفكرين أنفسهم .

ص 267