الجمعة، 26 فبراير 2016

مقتطفات من كتاب - رأس اللغة جسم الصحراء لأدونيس 3


أصنف "الحرية" التي يمارسها اللبنانيون والسوريون بأنها حرية سلبية : لا تنظر فيما فعلت الذات وما تفعله , وإنما تنحصر في تحقير الآخر أو التشهير به . وهذا مما يؤدي إلى انعدام الفكر والتأمل , عميقا وموضوعيا , في الواقع الحي . ويجعل من السياسة التي هي فن بناء المدينة والمجتمع والإنسان مجرد "مناورات" و "مناكفات" , و"حروب" . ويؤدي إلى مزيد من السلبيات : التخبط , الانقسام , الفوضى , الضياع.

لم أعد أذكر اسم ذلك "المفكر" العراقي أو السوري الذي كان عضوا في حزب البعث العربي , و"مأخوذا" برؤيته الذاتية إلى درجة أفقدته القدرة على الرؤية الصحيحة , ففكر في تأليف كتاب يسميه : "علم الجمال البعثي"! في كل سياسي سوري أو لبناني "عالم جمالي" يسير , دون أن يعلم , على خطى ذلك "العالم الجمالي البعثي" وراء جماليته الذاتية , الخاصة وهو في ذلك يمحو السياسة والجمال معا.

كل ما يحدث في لبنان وفي سورية , فكرا وعملا , يبقي كلا منهما "في ماهو عليه" , ولا يخطو أية خطوة لنقله إلى "ماليس هو" .

القوة العظمى التي لا تغلب والتي يجدر بلبنان وسورية أن يمتلكاها , لا تكمن في القادة ولا في النظام , وإنما تكمن في الإنسان . الإنسان الحر , الخلاق , المغيّر . وكل شيء في السياسة السائدة في لبنان وسورية قائم على تدمير الإنسان , وإحياء المحازب , والنصير , والتابع . إنها سياسة تعمل على أن يظل كل من هذين البلدين " معلقا على خشبة" .

112, 113

ينبغي على أهل الفكر في اللغة العربية أن يدركوا أخيرا , خصوصا بعد محاولات أسلافهم في القرن المنصرم , أن الفكر لا يتحول أو لا يتغير إلا بدءاً من "خلخلة" تراثه الخاص- في مشكلاته , وقضاياه , ومساراته, وأن هذه "الخلخلة" لا تتم بفعل "فكر" من خارج هذا التراث , سواء كان ماركسي أو أمريكي أو أوروبي.
لقد أخطأ هؤلاء في وضع هذا التراث على "الرف" , في إهماله , أو النظر إليه بوصفه "ميتا " أو مجرد "ورق أصفر" . وأخطأوا , على الأخص , في "الخوف" من طرح الأسئلة عليه , بشكل جذري , وشامل .

إلى أن تتم تلك "الخلخلة" ,سيظل الفكر في البلدان العربية كلها شكلا من أشكال "علم الجمال البعثي"!
114

لا أعجب بالطريقة التي اتبعها غيفارا في العمل التحرري . تحررياً : أفضل غاندي :رؤية ,منهجاً , وممارسة . أرفض العنف بأشكاله جميعا . مهما كانت أهدافه . سواء كان فرديا أو جماعيا .

ثم إنني أفضل , في كل عمل تحرري , أن يشارك الشعب كله في النضال , لا أن يقتصر هذا النضال على مجموعة من الأفراد , أياً كانوا .

غيفارا : عصبة ,طبقة , فئة ....الخ , تمارس العنف .
غاندي : الشعب كله , في تنوع فئاته ووحدتها , مسلحا بالسلام , والانفتاح على الآخر .

لقد أثبتت التجربة أن مثال غيفارا كان طريقا ملكيّة ً لتهديم طاقاتنا , لتخريب حياتنا , لتبديد ثرواتنا , لفشلنا , ولتشويه وجودنا وحضورنا في العالم.

إن للحرية هي كذلك سلاحها.

لكن, منذ أن يلبس هذا السلاح رداء العنف , ينقلب إلى عدو للحرية نفسها : يصبح نوعا من العدوان على الذات والآخر , معا .
لا سلاح للحرية إلا الحرية - إلا السلام .

أكرر : نعم , نحن في حاجة إلى غاندي , لا إلى غيفارا!


115,116


ما من أحد يطلب منا نحن العرب , أن نكون حكاما عادلين . أن نكون سياسين عظماء . أن نكون علماء كبارا في الذرة أو في غيرها , أن نكون فلاسفة أو شعراء أو فنانين . ما من أحد .

لكن الجميع يطلبون منا أن نكون حكاما غاشمين , أن نكون فاسدين مفسدين . أن نمجد العنف . أن نخطط لينفي بعضنا بعضا . وليقتل بعضنا بعضا . أن نفتقر , ونهاجر , ونتمزق. وهو طلب لا نكتفي , فيما نلبية , بأن ننفذه برغبة كاملة , وإنما ننفذه كذلك بمتعة كاملة .

قل لي , من أنت أيها العربي الذي يسكنني ؟


أحيانا يخيل لي أننا لم نعد بحاجة إلى أن نحفر القبور لموتنا . ذلك أن رؤوسنا وأجسامنا تحل محلها . فما أكثر القبور في أفكارنا وأعمالنا . يكاد كل منا أن يكون قبرا يسعى .

ولننظر إلى أحوال العراق , تمثيلا لا حصرا : إنها تؤكد لنا أن تاريخنا السياسي - الديني لا يزال المكان الأكثر تحريضا على اقتتالنا وتفتتنا , والأكثر مدعاة لضياعنا .

إنه تاريخ يحجب عنا الحاضر وحقائقه ومقتضياته , وليس حجب الحاضر إلا طريقة لحجب المستقبل.

116, 117

لعلنا نجد سببا من الأسباب التي تعيق التقدم العربي . فانحصار الصراع في "العمل" السياسي المباشر , في معزل عن "العلم" ليس إلا انحسارا . فالإنسان لا يتقدم بالسياسة وحدها , أو بإحلال نظام سياسي محل نظام آخر . لا يقدر أن يتقدم إلا إذا مارس اللغة الثقافية التي تتماهى مع تطلعاته ورغباته , بحيث يفصح عنها , ويحققها , ويعيشها .

ألا يبدو , في هذا الإطار , أن التاريخ الذي تكتبه السياسة العربية , موالاة ومعارضة , إنما هو تاريخ تكتبه المصادفات وردود الأفعال ؟

ألا يبدو تبعا لذلك أنه تاريخ لا معنى له!

119





كيف لم يبتكر المسؤولون , فلسطينيين وعربا , طرقا جديدة للفكر والعمل في كل مايتعلق بنظرتهم إلى فلسطين , وإلى العالم , وإلى حضورهم في العالم ؟
يتضح أكثر فأكثر , لي على الأقل , أن فلسطين ليست إلا فصلاً في مسرحية ضخمة : تدمير "الظاهرة" العربية , أو "الطاقة الخلاقة" عند العرب . فيما تدمر فلسطين , و"تمحى" . وقد "تبدي لنا الأيام" أن هذا الفصل لن يكون الأكثر هولاً .
في هذه المسرحية , تمتزج الفاجعة بالسخرية , على نحو يقل نظيره . ووجه السخرية هنا هو أن أبطال هذه المسرحية الأشد بروزا هم العرب أنفسهم من جهة , وأنهم من جهة ثانية , الأشد عنفا , بعضهم ضد بعض , والأشد فتكا , بعضهم ببعض , والأكثر تشويها لإنسانيتهم وتهديما لحاضرهم . تُرى , من يعرف , من يقول لنا : من أين , وكيف نمتلك نحن العرب , هذه القدرة الغريبة وهذه الجرأة الأكثر غرابة , على التدمير الذاتي.

120 ,121

إذا كان الشعر لا يرى بشكل مختلف , إذا كان لا يفتح طرقا جديدة للرؤية والفهم والحساسية , وآفاقا جديدة للكشف والمعرفة , إذا كان لا يُعنى إلا بتهيئة "طعام" مشترك يرضى عنه الجميع .
فهو لا يفعل أكثر من أن ينحني لسيدة "البيت" , فيما تنهض من سريرها , لكي تذهب إلى المطبخ.

122

بلغت حرية النقاش والتساؤل في عهد المأمون , في القرن التاسع الميلادي , درجة عالية دفعت شاعراً كأبي نواس إلى القول :" ديني لنفسي ودين الناس للناس" ". يذكرونهم , تبعا لذلك , أن ازدهار الحضارة العربية تم عمليا , في معزل عن المعتقد الديني , وأن الإبداعات الفكرية الفنية والعلمية تمت في أفق غير ديني . من دون أن يعنى ذلك المساس بحرية الإيمان الديني , تطابقا مع مشيئة الفرد . يذكرونهم كذلك بما أصبح بدهيا يعرفه الجميع : لم تقم الحضارة الغربية (المسيحية) إلا بعد أن تم الفصل الكامل في المجتمع بين الديني والسياسي .
دون ذلك , سيرى أهل الطوائف أنهم مقودون , عاجلا أو آجلا , إلى إقامة دولة خاصة بكل دين , ومن ثم إقامة "إمارة" خاصة بكل طائفة . هذا إذا لم يُهجّروا , أو يفتتوا , أو يحولوا إلى مجرد لعب ودمى . هكذا يكتمل الفاجع بالساخر : شعب يهدم بنفسه بيته الجميل الأخير فيما يظن أنه يزينه , ويقيم حوله الأسوار العالية.  
    125 ,126                
أين هي تلك الذاكرة التي لا يسكن العربي , غالبا , إلا فيها ؟ أين هي لكي نسألها : ماذا فعلت وتفعل تجربة العنف باسم الدين , من الجزائر حتى بغداد ؟
ماذا فعلت تجربة العنف في الحرب الأهلية اللبنانية ؟
ثم إن خمسين سنة من العنف باسم فلسطين جديرة بأن توضح أن هذا العنف لم "ينهك " العدو . وإنما أنهك أصحابه.
وكيف لا نرى الواقع ؟ ولماذا لا نراه ؟ ماهذا "الحجاب" السري الذي ينسدل على وجوهنا ويحول بيننا وبين الرؤية الواضحة الصريحة , البسيطة ؟
مالسر في تمسكنا بخوض حروب تشل حياتنا , وتستنزف مواردنا وثرواتنا وطاقاتنا , وتكاد أن تستأصلنا؟ مالسر في هذا الإصرار على الموت , مجانا أو عبثا , أفرادا وجماعات وبلدانا ؟

132

في الأصولية الدينية , اليوم , نزعة للتوحيد بين الانفعال والمعتقد , أو بتعبير آخر , إلى تذويب المعتقد في "الذات" . وفي هذا ما يؤدي ببعضهم إلى أن يحولوا الدين إلى ملك "شخصي" , ويحولوا من لا يرى رأيهم إلى "كافر"- "عدو " لا بد من "محوه" .
 
وفيه كذلك , ما يدفع بعضهم إلى أن يغضبوا لـ"معتقدهم" أكثر مما يغضبون لـ "الخالق " نفسه.
والسؤال في هذا الصدد , هو : كيف يمكن هؤلاء أن يعتقدوا بأن مثل هذه الممارسة دفاع عن الدين , أو خدمة له؟

146
" انفجرت قنبلة في شارع عربي , مات من مات , وجرح من جرح , وتجعدت بشرة الهواء , فيما كان الشارع يصرخ : يسقط الامبراطور الروماني !"

157

"وضعتنا الكتب المقدسة في أرض مقدسة ليست إلا سجونا مقدسة . لك القداسة أيتها الكتب أيضا وأيضا .."
159


سأمضي بقية حياتي بين يدي قصيدة أتتلمذ على الحب .

*

قتلت السياسة وأهواؤها حس الحرية عند الإنسان . فما أكثر الذين يقاتلون اليوم , باسمها لكي يظلوا عبيدا .


لا تمت في سبيل أي شيء
لاشيء , أيا كان , يستحق أن تموت الحياة من أجله .
كل شيء يجب أن يموت من أجل الحياة
لا تمت إلا الموت الذي تأخذك إليه الطبيعة .


*

تحوّل مفهوم العروبة في المحيط السياسي العربي إلى سفينة من أكبر سفن التاريخ . غير أنها سفينة لا تحمل إلا التاريخ .

*

لماذا يرفض العربي , إجمالاً , أن ينظر إلى التاريخ إلا بعين التمجيد والاعتزاز ؟ لماذا لا يقدر أن يرى إلا الجانب المضيء ؟

*

يبدو أن من العبث أن نطالب الزمن بأن يدخل البيوت العربية إلا على الطريق التي ترسمها فضة الصلاة نحو ذهب السماء . هيئوا , إذا , صقور السياسة , وأطلقوا أرانب اللغة .



160 , 161, 162, 164, 168



يوحد معظمنا نحن العرب , بين الوطن والدين , ونمزج انطلاقا من ذلك , بين الوطنية والتدين - فيما يكون الوطن واحدا , والتدين كثيراً .

لماذا , إذا نفاجأ أو نستغرب إذا رأينا بعضنا في هذا الوطن الواحد يقوم بأعمال لا يؤمن بها , ويجهر بأفكار تتناقض مع وعيه وضميره ؟

أو إذا رأينا بعضنا يشعر أنه أجنبي في وطنه ؟
أو إذا رأينا بعضنا لا يؤمن بالوطنية إلا إذا كانت تابعة للدين الذي يؤمن به , أو إذا رأينا بعضنا يشعر أن حريته تنتهك يوميا , أو إذا رأينا بعضنا يشعر أنه يعيش دون حرية , كأنه مقيد أو مستعبد , أو إذا رأينا بعضنا يشعر أنه لا يقدر أن يعيش إلا في عداء كامل للدين وللوطن معا ؟

ولماذا , إذا نفاجأ أو نستغرب إذا طرح أحدهم علينا هذا السؤال :
ما يكون مضمون وطن بمثل هذا الشكل المفتت ؟ وما يكون معناه ؟ وما تكون قيمته ؟

169 ,170

تقتضي أوضاعنا نحن العرب والمسلمين بعامة , أن يكون الدين عندنا انفتاحا كاملا على تجدد العالم , تغير الأشياء , وأن يكون المؤمنون وأهل الدين , تبعا لذلك , ورشات عمل في " فقه التحليل " , من أجل استيعاب هذا التجدد وهذا التغير في لغاتهما , الثقافية والمادية العددية والمتنوعة . لكن العكس هو الحاصل . فليس هناك غير ورشات عمل في فقه "التحريم".

كل عالم "ضيق" , اليوم هو عالم ثانويهامشي لا شأن له , ولا فعل , كل ما لا شأن له ولا فعل , لا حاجة كيانية له . كل مالا حاجة كيانية له , مهدد بأن ينقرض.

****

نبرع نحن العرب في ممارسة فن ممتع هو فن تغييب الواقع .
هكذا , لا يفكر أحد في تغييره . الفكر كله , محصور على العكس , في استثماره - وفي ابتكار الطرق الأسرع والأجدى في هذا الاستثمار . وهو فن يحظى بعناصر تقنية تدعمه وتطوره : وسائل الإعلام , العوالم الافتراضية , المخيلة الدينية الخاصة بالعالم الآخر .

172 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق