الاثنين، 28 أبريل 2014

اقتباسات / أدونيس ( الجزء الأول )



مقتطفات- من كتاب
 الكتاب الخطاب الحجاب
 للمؤلف : أدونيس

ص 10
تاريخيا أدت ثقافة التكفير إلى ثقافة الامتناع عن التفكير , أو إلى مايمكن أن نسميه بثقافة الاجتناب. اجتناب الأساسي في كل شيء : في الدين , في الفلسفة , في العلم , في الشعر , في السياسة , في الطبيعة , وفي ما وراءها . لا مجال للإنسان , في التفكير والمساءلة والكتابة إلا في ما "حُلل" . وما "حُلل" ليس إلا جزءا يسيرا من جسد العالم . هكذا لايعود الجسد نفسه إلا مجرد مادة للنبذ والإقصاء والحجب.
ـــــــــــــــــــــــــــ

ص 12 , 13
لقد تحول الإنسان في نظام التأويل الوحداني وسياسته إلى مجرد آلة تنقل الكلام الذي يوصف بأنه ديني , دون نظر أو تساؤل أو بحث . وبدا هذا الكلام في الممارسة كأنه لا يُعنى بتحرير الإنسان بقدر مايُعنى بتقييده .وكأنه لا يعلّم الإخاء والسلام , بقدر ما يعلّم العنف والحرب.

وتحول الإنسان إلى آلة حتى في مسألة المعرفة . فهل الإنسان كائن ينقل المعروف , أم أنه على العكس , كائن يكتشف ما ليس معروفا ؟ فأن يعرف الإنسان هو أن يكون له رأي قائم على التعقل والاستقصاء. ويعلمنا الموروث التأويلي الديني أن القائل برأيه في الدين مخطئ وإن أصاب فلا معرفة في الدين إلا بالنقل , ويعني ذلك أنها اتباع ويقين أو لنقل أن المعرفة بحسب هذا الموروث اعتقاد وليست انتقادا وهي جماعية لا ذاتية.

النقل آلة وليس للآلة حضور ,لأنها منذ أن تحضر تصبح ماضيا . إنها حاضر بلا حضور زمنها تكراري هكذا تسيطر على الحركة وتلجمها . ذلك أن المعرفة انفجار دائم , بينما الآلة نظام مغلق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الديمقراطية ثقافة وممارسة تقوم جوهريا على التعددية , وعلى النظر إلى الآخر المختلف غير المسلم لا بوصفه من "أهل الذمة" بل بوصفه عضوا في بنية المجتمع فيما يتخطى التسامح إلى المساواة الكاملة . والحرية هي جوهر التعددية . فإذا لم يقبل النظر الإسلامي مثلاً أن الفرد المسلم يمكن أن يغير دينه , أو يرتد عنه بحرية كاملة دون اتهامه بالكفر , أو إباحة دمه , أو قتله , فكيف يمكن أن يكون الإسلام ديمقراطيا؟

وإذا لم يقبل النظر الإسلامي أن المرأة كالرجل سواء حقوقا أو واجبات , في جميع الميادين , فكيف يمكن أن يكون الإسلام ديمقراطيا؟

وإذا لم يقبل النظر الإسلامي أن هناك بشرا آخرين مؤمنين بأديان أخرى غير الإسلام ولا يجوز إطلاقا وصفهم بأنهم كفار تحقيرا وازدراء , فكيف يمكن أن يكون الإسلام ديمقراطيا؟

أكتفي بهذه الإشارات على مستوى النظر . وأشير إلى الواقع الذي يعج بالانشقاقات الإيمانية النظرية العنيفة الكريهة داخل الإسلام نفسه والتي تؤدي إلى تكفير بعضهم بعضا , وقتل بعضهم بعضا .


26 , 27
إن ما يسمى بالحوار بين الحضارات أو بين الأديان يتحرك في أفق مغلق . ذلك أن كلا من أطرافه يصدر عن موقف يعطي للهوية الدينية الأوليّة على الهوية الإنسانية زاعماً أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وأن غيره على ضلال قليلا أو كثيرا , بشكل أو بآخر .


ينطلق اليهودي من الإيمان بأنه ينتمي إلى شعب اختاره الله ليكون شعبه الخاص دون غيره من الشعوب. الإيمان بهذا الاختيار يجعل من الله نفسه إلها خاصا بشعب خاص . فكيف يمكن الحوار الديني مع جماعة تؤمن بهذا الإيمان الديني؟

وينطلق المسيحي من الإيمان بأن الله ليس نقطة مجردة خارج العالم وإنما هو يتجسد على الأرض . الله يتأنسن . وهو إله صُلب وقتل في سبيل خلاص الإنسان . وهذا المفهوم يتعارض جذريا مع المفهوم اليهودي.

الله في اليهودية يناصر شعبه , ويقاتل ويأمر بالقتل إذا اقتضى الأمر في سبيل هذا الشعب. والله في المسيحية هو الذي يُقتل وهو الذي يموت فداء لبني البشر . إنه نفي كامل للمفهوم الآخر وكلاهما ينفي الآخر . ولا يتحاور نفيان.

والله في الإسلام مجرد كما هو في اليهودية لكنه أكثر رحمة ورأفة , مع أن النص القرآني يقدم عن الله مثل التوراة , صورة الإله المحارب.

باختصار ليس المسلم هو من يعقل القرآن , وإنما القرآن هو الذي يعقله , وليس اليهودي هو من يعقل التوراة , وإنما التوراة هي التي تعقله.

لا يمكن الحوار الإنساني الخلاق إلا بالخلاص من الأفكار اللاهوتية المسبقة التي تنبع منها الأفكار المسبقة السياسية والاجتماعية , وإلا بالمساواة . وهذا مما يحتم طرح مسألة العلاقة بين الأديان طرحا جديدا كليا , وهو طرح يحتم على كل وحدانية أن تعيد النظر في رؤيتها للإنسان والعالم. دون ذلك لن يكون الحوار أكثر من كلام متأدب , سياسي , ولن تكون لغته إلا لغوا .


29, 30 , 31

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإبداع في مختلف جوانبه وتجلياته كان حركة انزياح أو انحراف عن النص الديني . وما نسميه بالحضارة أو الثقافة العربية كان في معظمه وفي ذرواته العليا وليد الصراع مع النص الديني . وهو صراع بدأ تأويلا للنص وانتهى ابتعادا عنه . وتلك هي ثورة الإحداث الثقافي أو التجديد الذي بدأ مع نشوء الدولة الأموية 661 وانتهى بسقوط بغداد 1258 وهي إذا ثورة استمرت حوالي ستة قرون.
وبدءا من سقوط بغداد انهارت الهوية السياسية الثقافية في المجتمع العربي الإسلامي فأخذ المسلمون في ضياعهم وحيرتهم يلوذون بالهوية الدينية ودَعم هذا اللجوء إلى الدين الإسلامي الانحطاط الثقافي والتفكك الاجتماعي والهيمنة الخارجية العثمانية...

ص 42 , 43

الانتقال من سياسة النبي إلى سياسة الخليفة لم تدرس كما ينبغي ففي هذه الفسحة حدث الانقلاب النظري العميق الذي سيطبع تاريخ الإسلام , وأعني بذلك بداية ما يمكن وصفه تجوّزا بـ "الحداثة" في النظر إلى النص الديني - المرجع , وفي فهم العلاقة بينه وبين الأحداث والوقائع . وبدءا من ذلك بدأت الانفجارات في العلاقات بين الدين والعالم , عبر العلاقة بينه وبين الدولة . ربما نجد في هذه الانفجارات عناصر تشارك في تفسير العنف , الدموي غالبا , في الخلافات مابين المسلمين بعد وفاة النبي مباشرة وعلى امتداد النصف الأول من القرن الهجري الأول والذي مات فيه ثلاثة خلفاء راشدين اغتيالا . وتمثلت ذروة هذه الخلافات في تأسيس الدولة الأموية حيث أصبح الدين مجرد أداة لخدمة الخلافة السياسية أو مجرد سلاح لمحاربة العدو . وأخذ الدين يتفتت في مذهبيات دوغمائية , يعنى أصحابها بالقضاء على خصومهم أكثر مما يعنون بالدولة وبنائها.

ص 46
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان على العرب أن يفيدوا في هذا العصر من الانقلاب المعرفي والتقني في الغرب , بحيث يتم التواصل مع قيم التجديد والإحداث في التاريخ العربي . مثلاً قيم التمييز دينيا بين الخاص والعام أي التمييز بين شؤون المدينة -المجتمع , وشؤون الفرد , وسيادة القانون الطبيعي - الوضعي , والمقتضيات المدنية الاجتماعية , وحقوق الإنسان وحرياته ...
لكن العرب لم يفيدوا من هذه القيم . وتمت عودتهم على العكس إلى المذهبية الدوغمائية أي إلى العنف , بأشكاله المختلفة , وإلى فرض حرب إلغائية بين أبناء المجتمع الواحد.

وأنتجت هذه العودة ثقافة أصولية تجعل الزمان كله ماضيا . صار ما نسميه بالمستقبل مجرد مجال لتحقق الماضي. فلا مكان في هذه الثقافة للمستقبل بوصفه انفتاحا على المجهول . فالأفضل الأكمل في جميع المجالات تحقق نهائيا في الماضي وما على الحاضر إلا أن يقتدي به , وأن ينسج على منواله . إنها ثقافة يبدو فيها العربي المسلم كأنه كائن مستنسخ.
هكذا تضع الأصولية الإسلامية الراهنة الإنسان في حصار ثقافي كامل , تقول له :
أنظر لكن إلى ما لا تستطيع أن تراه .
وتكلم لكن عمّا لا تقدر أن تقوله أو تغيره .
واعمل لكن مايشاء الله أن تعمله , أو ما يقدره لك.
                      ص 47 , 48                  

ونستخلص من ذلك أن الدين في ذاته , لا يصنع التجديد . العقل الإنساني هو الذي يصنعه . وعندما نقول العقل , نقول السؤال والشك , الحرية والإبداع , الرفض والتجاوز . وهو إذا لا يقدر أن يجدد إلا بقدر ما يتحرر من الدين أمرا ونهيا , في مجتمع حقق هو كذلك هذا التحرر - أي أن الدين فيه لا يكون مؤسسة أو شرعا لجميع أفراده , وإنما يكون مجرد إيمان فردي خاص بالفرد وحده , ومجرد ممارسة لا تلزم إلا صاحبها لنقل بتعبير آخر:
لا تجديد إلا بقدر ما يبطل الدين أن يكون نظاما ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.
إذا لا تجديد إلا بالفصل الكامل بين الدين والسياسة , وبين الدين والإبداع الفني والثقافي , وتؤكد التجربة التاريخية العربية أن المجتمع العربي لم يتقدم ولم يتجدد إلا بقدر ما كان يمارس هذا الفصل.

 
49 , 50ص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان المسلمون يتسامحون انطلاقا من يقين راسخ بأنهم يمتلكون الحقيقة , وحدهم دون سواهم . كان تسامحهم , إذا نوعا من التفضل على الآخرين . كان , بعبارة ثانية , قيدا من نوع آخر . هكذا يضمر هذا التسامح , في التحليل الأخير , ما ينفي الديمقراطية أو يتنافى مع معناها . فهذا المعنى يقتضي المساواة الكاملة بين أفراد المجتمع , أيا كانت معتقداتهم الدينية . وهذا التسامح إنما هو نوع من اللامساواة.

ص 51
لا نستطيع كما يقول فرويد أن نقتل فكرة الله لكن يمكن أن نغير مفهومه , وطرق النظر إليه . وهذا ما فعله المتصوفون المسلمون وكثير من الشعراء والمفكرين الفلاسفة في المجتمعات الإسلامية . وفي حين قبلت الرؤية الوحدانية اليهودية والمسيحية إجمالا -بعد فترة القرون الوسطى - هذا التغيير , فإن هذه الرؤية في الإسلام رفضته ومازالت ترفضه , متهمة المتصوفين والشعراء والفلاسفة جميعا بالضلال والغواية والكفر .

ص56

يمكن بمعنى ما , وقياسا بحالة ماضية أن نقول إن الشعر العربي اليوم يغادر المسرح , غير أنني أجد في هذه المغادرة "نصرا" لا "هزيمة" .

إنها أولاً مغادرة تعني خلاص الشعر من كل ما هو غير شعري أي من السياسات والإيديولوجيات التي شوهته خصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم . وتعني كذلك خلاصه من الشعبوية التي هي نقيض لخصائص الشعر . وتعني أيضا فقدانه القابلية لكي يستخدم أو لكي يصبح وسيلة.

هكذا نرى أن ما يفقده الشعر أفقيا يربحه عموديا . لم يعد للشعر "جمهور " , وإنما أصبح له "قارئ" , وقارئ الشعر الحقيقي إنما هو شاعر آخر , أي خلاق آخر وذلك ما يحتاج إليه الشعر.

ص 66

لماذا نطالب الأجنبي أن يعاملنا بطرق أفضل مما عاملتنا بها وتعاملنا أنظمتنا نفسها , ونعامل بعضنا بعض ؟ وبأي حق , نطلب من غاز أجنبي أن يكون ديمقراطيا في بلد لم يعرف الديمقراطية في تاريخه كله ؟

الاغتصاب بمختلف أشكاله السياسية والاجتماعية أليس خاصية من خصائص حياتنا العربية , منذ القديم وحتى اليوم ؟ وأين يهان الإنسان , ويحتقر , ويحرم من جميع حقوقه حتى حقه الأولي البسيط بالسفر وجواز السفر أكثر مما نرى هذا كله في البلاد العربية ؟

أرجو ألا تظن أنني أدافع عن الغزو وإنما أذكر بأنه لايجوز أن نواصل نسج الأقنعة الخارجية لكي نغطي مخازينا , وانحطاطنا في الداخل.

ص 69
النظر إلى الإسلام من "كوة المستقبل" ؟
لا مستقبل له إلا إذا تكلم لغة المستقبل . وجوهر هذه اللغة هو أن كل شيء يجب أن يكون لخدمة الإنسان . لا العكس , كما يفعل المسلمون اليوم : التضحية بالإنسان لخدمة كل شيء . والدين هو نفسه يجب أن يكون من أجل الإنسان . وليس العكس . ولكي يكون الإسلام كذلك يجب أن يصبح تجربة روحية شخصية , وأن يخرج من السياسة ومصاحباتها جميعا. دون ذلك لن يكون الإسلام أكثر من قلعة ضخمة , كونية يعيش فيها بشر ليسوا إلا ركاما عدديا .

ص 72
تبدأ النجاة من هذا الخراب السياسي الثقافي الاقتصادي , بتحليل الأسس التي أدت إليه , من أجل فهمها وتجاوزها . وهي أسس متنوعة ومتشابكة : دينية , سلطوية , اقتصادية . ويؤسفني أن أقول هنا إن مفكرينا قلما يعنون بتحليل هذه الأسس في أعماقها وجذورها , وبخاصة الدينية - السلطوية . ولا بد أن نعترف أولا , دون خجل أو تردد أن السلطة الإسلامية الأولى نواة الدولة الإسلامية (بيعة السقيفة) أسست على العنف بانقلاب سياسي عنفي أقصى طرفا كبيرا من العرب هم الأنصار عن المشاركة السياسية وحصر السلطة في الطرف الذي تمثله قريش. فالسلطة العربية الأولى سلطة عنف لا سلطة شورى أو ديمقراطية باللغة الحديثة .
وإذا استقرأنا التاريخ العربي , سنرى أن هذا الأسلوب العنفي هو الذي ساد السياسة العربية منذ بيعة السقيفة . وليس عجيبا أن يموت قتلا ثلاثة خلفاء راشدين مؤسسين - وفي رواية أن الخليفة الأول مات مسموما . هكذا أنشئت السلطة العربية ولا تزال حتى اليوم اغتصابا . والدين كان في أساس هذا الاغتصاب سلبا أو إيجابا : يساند هذا أو ذاك أو يناهضه بحسب المرحلة و بحسب المصلحة . دون القضاء على هذا العنف وعلى هذا الاغتصاب ستظل السلطة في ديار العرب قائمة على القمع والعنف والظلم وقهر الإنسان .
ولا يمكن القضاء عليها إلا بالفصل الكامل بين الدين والدولة كما أشرت سابقا بحيث يصبح الدين تجربة روحية خاصة بين التجارب الإنسانية الروحية في العالم . تجربة لا تلزم أحدا إلا صاحبها . تلك هي البداية , لكنها مجرد بداية . غير أنها تتيح للعقول أن تتفتح و أن تمارس إبداعها بحرية , وتتيح من ثم للإنسان أن يرى بحرية وأن يخطط بحرية , وأن يتقدم بحرية.
ص 74

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق