الجمعة، 26 فبراير 2016

مقتطفات من كتاب - رأس اللغة جسم الصحراء لأدونيس 1





غيمة تمسح بيدها وجه غيمة شبه نائمة .
غيمة تبسط يدها على وجه الشمس .
غيمة تمد يدها كأنها تتسول الفضاء.
حبل من الضوء, تقفز عليه الغيوم كأنها طيور مهاجرة .
غيوم يتحرك فيها المكان كأنه الزمن نفسه .
أو لعل السفر , كمثل الخيال , يخلق أمكنة متحركة , محولة المكان إلى شكل من أشكال الزمن.




هكذا قد يُلفظ الفرد من الأمة , بوصفه مرضا , أو كفرا , أو غير ذلك , تبعا للحالة . ليس له أنا , أو ذاتية مستقلة , بحيث يقدر أن يخالف الجماعة -الأمة , ويظل مقبولاً , أو جزءا منها , دون أن يُرفض أو يُكفر, أو يقتل . يتعذر على سبيل التبسيط , أن تقبل الجماعة - الأمة شخصا فيها مثل نيتشه , أو فرويد أو داروين أو رامبو . شخصا يقول حقيقته هو , ضد الحقيقة التي تقول بها الجماعة- الأمة التي ينتمي إليها , وتظل مع ذلك حاضنة له , قابلة به , حريصة على حقوقه وحرياته . ذلك أن الجماعة - الأمة لا ترى من الفرد أو فيه إلا دوره الديني والدور الاجتماعي الثقافي المرتبط به . هنا , لا يتكلم الفرد بأناه وإنما يتكلم بدينه كما تنقله الجماعة - الأمة . هكذا يمضي الفرد في المجتمع العربي الإسلامي حياته بحثا عن حياته , وبحثا عن نفسه .

لنقل أن بنية الطغيان في الحياة العربية , منذ نشوئها سياسيا حتى اليوم , أدت إلى الأمور التالية التي يعيشها العرب راهناً :
 1- ليس النظام هو الذي يتبع واقع البلاد , بل البلاد هي التي تتبع واقع النظام .
2- أُلغيت فكرة الوطن , وحل محلها النظام.
 3- ألغي النفي , سياسيا وحل محله "القتل" بشكل أو بآخر.

ص 20 , 21
إذا كان المكان الذي ينظر إلى لون بشرتي وأسماء أجدادي هو الذي يحدد هويتي , ويرسم لي نطاق الحركة ودرجة الحقوق ونسبة المواطنية ومسافة التأمل ومرجع الأسئلة , فأن هذا المكان منفى .

إن كنت لا أملك حرية فكري كاملة , أو كنت لا أملك تقرير مصيري وتوسيع وجودي الفكري , أو كنت لا أقدر أن أطرح أسئلتي بلا مواربة وأعلن تحفظاتي بلا تقية وأناقش القضايا الجوهرية الكيانية بلا حدود ولا كوابح ومحرمات فكرية من أي مستوى كانت , فأما أن أتمرد وإما أن أقبل المنفى . فالمنفى الفعلي هو الإطار الثقافي الذي يحد من شكوكي وتساؤلاتي حول الكون والمصير .
المنفى هو أولاً غربة الإنسان عن ذاته وحريته الفكرية . هو الحجاب على العقل ورباط الأسئلة وتمويه القلق والحيرة وقبول الإذعان والتسليم بدل التعبير والمساءلة .
ص 23

إذا شاء المجتمع أن يحترم كينونته , فأن قوته الوحيدة في ذلك هي إنسانيته الحرة والمفتوحة . دون ذلك لن يكون أكثر من قطيع.

ص25

الفترة التي عرفت فيها يقظتي على العالم والأفكار والأشياء , كان يقودها منطق الهوية - الهوية المزدهية حتى الغطرسة , والمكتفية بذاتها . وكان يمثل هذا المنطق , على نحو أخص , حزب البعث العربي , رافعا القومية العربية إلى مستوى المسلمة الميتافيزيقية , كما لو أنها لاهوت ثانِ. هكذا لم يكن يرى في الآخر الذي يعارضه إلا الفساد والشر.

كان هذا المنطق امتدادا ً للمنطق الأصولي الديني , من حيث انغلاقيته , وسهره على صحة الأصل , وفكره الاقصائي الطغياني , وكما كان الأول عدوا شرسا لكل انتماء غير عربي , داخل البلاد العربية , كان الثاني عدوا شرسا لجميع الفرق الدينية المنشقة عن الجسم الرسمي للأمة -الدين الواحد.

ص 26

المنفى إذا , بالنسبة إلي ليس في الخارج , وإنما هو في الداخل . ولم يؤثر في منفاي تغيير الأمكنة . وبما أن المنفى بالنسبة إلي ليس مسألة جغرافية , وإنما هو مسألة ثقافية , فإن العلاج , إذا , لا يجيء من خارج , بل من الداخل . والسؤال هو نفسه : ماذا أفعل داخل ثقافة أشعر أنني منفي فيها ومنها ؟
يتمثل هذا المنفى , ثقافيا , في الرؤية الأوحدية , الدينية والسياسية , السائدة إلى الحياة والإنسان , تلك التي تقود المجتمع العربي , وتؤسس لوجوده . ما تقول هذه الرؤية ؟

تقول إن دور الإنسان ليس في الكشف عن حقائق جديدة , وإنما هو في شرح الحقائق التي أُوحيت إلى خاتم الأنبياء , وبُلغت في رسالة سماوية هي خاتمة النبوات . كل دعوى تزعم القول بحقائق أخرى , باطلة حكماً , عدا أنها تحمل رفضا معرفيا لهذه الرسالة التي هي الوحي الأخير .

ومعنى ذلك أن المستقبل لا يمكن أن يحمل حقائق أكثر صحة من تلك التي حملها هذا الوحي . والثقافة إذا , علما وفناً , ليست إضافة , وإنما هي انبثاقات من النصوص , شرحا وتفسيرا . وما نسميه بالتقدم , إذا, لا يعني الإتيان بشيء لم يكن موجودا , وإنما يعني إبراز ما كان كامنا بالنصوص , وإن كان يعني التجميل والتحسين . إذ لا يمكن , وفقا لهذه الرؤية , أن نتصور نشوء فكر أكثر تقدما من فكر النبوة الدينية , أو نشوء عمل أفضل من عملها , وإلا فإننا ننكرها . والمعيار إذاً ليس خارج هذه النبوة , وإنما هو في داخلها . ومهمة الإنسان ليست في البحث عن قول أفضل أو عمل أفضل , وإنما هي في الحرص الكامل على محاكاة النبوة , قولا وعملا . وجهد الإنسان نظريا , يقتصر إذا على النقل , واضعا العقل نفسه في خدمة هذا النقل . فليس هناك , وفقا لهذه الرؤية , ماض ليكون هناك مستقبل . ولم تكن عصور النبوة تخلفاً لتجيء بعدها عصور متقدمة . التقدم على العكس , يكمن في العودة إلى ما مضى , إلى الأصل , على نحو متواصل إلى قيام الساعة.

وبما أن التقدم الكامل أو الأكمل موجود في النبوة , أي موجود في الماضي , فأن نتقدم اليوم هو أن نقتدي بهذا الماضي , سياسة وثقافة . فالماضي بهذا المعنى , هو مستقبلنا !
والدين والسياسة والثقافة كل لا يتجزأ , وفقاً لهذه الرؤية.

ص 30 , 31

أُتيح للنصوص الدينية اليهودية والمسيحية عقول خلاقة وحرة تعيد قراءتها وتأويلها في ضوء الشغف الإنساني إلى المعرفة والتقدم والسيطرة على المادة واكتشاف الكون . وأُتيح لها أن تبتكر مدنيتها وشرعها المدني وقوانينها المدنية وثقافتها , دون أن تسيء إلى الإيمان الديني , ودون أن يفرض الدين تعاليمه عليها . بذلك تحقق النهوض في الغرب , مؤسسا على الفصل بين عالم الدين الذي صار تجربة روحية فردية خاصة , وعالم المدينة . وهذا مالم يُتح للنص القرآني . بقي محجوبا بقراءته الفقهية , استنادا إلى قراءات السلف بوصفه نصا تعليميا في الأمر والنهي , في معزل عن الانقلابات المعرفية الكبرى , وفي إهمال كامل للتطور الإنساني , وللثقافة بعامة , والعلم بخاصة. وبقي العالم الإسلامي -العربي يرزح في قيوده , معرفيا وسياسيا واجتماعيا .


32

الشاعر / "الغريب" , بدئياً , لا يقيس نفسه بالجمع الذي ينتمي إليه , ذلك أنه غريب فيه وعنه . ثم إن الجمع ليس هو من يكتب القصيدة . وإنما يكتبها الفرد الشاعر .

والشاعر بوصفه خلاقاً لا "يصلح" . إنه على العكس "يهدم" من أجل الوصول إلى ما هو أجمل وأفضل . حين يكون الشعر "إصلاحاً" يلغي نفسه. والشاعر , إذا , ليس صوت "الجمع " , وإنما هو صوت الوجود والمعنى وصوت نفسه عبرهما.

ثقافة الجمع أو ثقافة القبيلة لا ترى من طبقات هذه الذات , المتعددة , المتنوعة , المتصارعة , المتناقضة , إلا الجانب الأكثر التصاقا بالقبيلة - السطح المبتذل . ذلك أنها لا تقيس الشاعر على الشعر , وإنما تقيسه على الجمع . ولا تراه بعين "الإبداع" وإنما تراه على العكس بعين "الإتباع" . وفي قياس الشاعر على الجمع لا على الشعر , ما يضمر نفيه بوصفه شاعرا , أولاً , وإثباته بوصفه , أولاً , مجرد عضو في قبيلة!


35, 36

واليوم , بدلاً من أن يدرس شعر أبي نواس بوصفه رؤية شاملة للوجود , وبوصفه أحد المبدعين الكبار في التاريخ الشعري , العربي والكوني , يدرس بإصرار (وجهل) بوصفه "شاعر الخمرة" , العابث , الماجن , (الشعوبي أيضاً) . ولا بد , إذا , من أن يكون "رجعيا ."

كيف يمكن تاريخ تهيمن عليه مثل هذه القراءة أن يكون تاريخا إنسانيا , أو شعريا ؟

وليس هذا المثل إلا واحدا من أمثلة كثيرة , لا في الشعر وحده , وإنما كذلك في الثقافة , بأشكالها جميعا , ومن ضمنها الدين نفسه.
42
ليس عجيبا , إذا , أن تهيمن المرجعية الأخلاقية والسياسية والدينية على القراءة الشعرية السائدة . مثلاً , لا يرى القارئ "المتدين" أو "المؤمن" في الشعر الذي يسمى حديثا إلا "الكفر" و"الإلحاد" . و"المؤمن" هنا واحد : سواء كان يؤمن بوطن "أبدي" في السماء , أو بوطن "تقدمي" على الأرض .

ليس عجيبا أن نرى مفكرين عربا يفخرون , مثل كثير من الفقهاء و"أهل العلم " , أنهم لا يعنون قطعيا بالشعر . كأنهم لا يريدون أن يتعرضوا لغواياته , أو لا يريدون أن يعرضوا "حقائقهم" و"عقولهم" لحدوسه وتخييلاته .

ما يكون فكر لا يتلألأ فيه ضوء الشعر ؟

43 , 44

إن القطيعة مع الماضي يجب أن تتأسس في سياق علائقي : بالمجتمع , بالتاريخ , بالآخر , وبالطبيعة , وبالذات , وبالحاضر والمستقبل . دون هذا السياق , الرائي والمنخرط معا , المحايث والمتجاوز في آن , لا تصح القطيعة , أو لا تكون إلا لفظية.

ولما كان الماضي مستودعا للعناصر التي لا تزال الأكثر حضورا وفعالية , وبخاصة في جوانبها الدينية , في المجتمعات العربية , فلابد من العودة إليه لقراءته وفهمه في ضوء التجربة الراهنة , العربية والكونية. ولا تعني هذه العودة الاستعادة أو المنوالية التكرارية , وإنما تعني رؤيته على حقيقته , في ماهو , وفي جميع أحواله , لكي نعرف كيف ننفصل وكيف نتصل.


46

كل يوم , يتبخر ماء المعرفة الخاصة بالعالم العربي - الماء الذي كنت جمعته في اليوم الذي سبقه . وأعود أتساءل من جديد : ماهذا الواقع العربي ؟ لا أكاد أقبض فيه على شيء حتى يفلت مني .

ماجدوى كلمة "حقوق" في نظام ثقافي-سياسي , ينتج فيه المرض كما ينتج القمح , ويوزع على البشر كما يوزع الخبز؟

59, 60

مشيت . لا حظت . تأملت . تحدثت . لم أعرف كيف غاب عني الشعور بالزمن - أنا المرهق , المؤرق به , وفيه , ومنه . كل ما كان حولي , كل ما مررت به , مدهش يحرك ويثير ويشهي . هكذا نسيت الديمومة , أو تماهيت بها - وحسبت أن اللحظة أبد , وأن النهار أقل من لحظة .

وشعرت أنني كمثل هذه المدينة : أواجه الكون - خدا للشرق , وخدا للغرب . كأنما تفتح أمامي قارة "لا شرقية ولا غربية " , - كينونة أخرى لا تجيء من جغرافية الأرض , بقدر ماتجيء من جغرافية الإنسان .

لم تعد هناك تخوم بين جسدي ومشرق الشمس ومغربها . وكان التاريخ ينتشر كمثل أشرعة تملأ الفضاء .

68


شعرت أنني محتاج إلى أن أعود تلميذا , أتتلمذ على أشياء الواقع . على الليل والنهار . على الفضاء وكواكبه . وعلى كواكب الأرض الآدمية.

وصرخت في سريرتي : كيف للثقافة التي أنتمي إليها أن تنسلخ من شعورها بالامتلاء المعرفي؟ كيف لها أن تتوقف عن مسيرتها السادرة - المنتفخة والطاووسية ؟ وكيف لها أن تتحول إلى ثقافة تقذفنا أبدا في آفاق الرغبة والغبطة والأسئلة ؟


ويا لذلك الكلام المسكين الذي يوقن أنه محيط ويقول كل شيء , فيما لا يقول أي شيء . وما أكثره في الثقافة التي أنتمي إليها , وما أشد سلطانه . وتمتمت : بلى , كأن الكلمات في هذه الثقافة مليئة بالدمامل .


متى تصبح الثقافة التي أنتمي إليها - لا بيتا نقر فيه , بل ذروة نطل منها , كشفا واستقصاءً؟

69,70 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق