الجمعة، 26 فبراير 2016

مقتطفات من كتاب - رأس اللغة جسم الصحراء لأدونيس 4




لقد أثبتنا نحن العرب براعتنا التي لا مثيل لها في تاريخ العالم : تلك التي تتمثل في القدرة العجيبة على الامحاء أمام الخارج , وعلى محو بعضنا بعضا , أفرادا وجماعات , في الداخل.

ولكي يبلغ هذا المحو أوجه العبثي يزين لمعظمنا أن خلاصنا من هذا المحو لا يتم إلا بالدوران في فراغ آخر , فراغ القتال فيما بيننا على اقتسام الماضي , أو بالأحرى على تملكه , بوصفه الرأسمال الوحيد الذي يتيح لنا , لا أن نتملك الحاضر وحده , بل المستقبل كذلك . كمن يصر على أن يقبض على الماء بفروج أصابعه , أو على أن يحرث الأرض بالغيم .

هكذا ندور في حلقة مفرغة : لا نخرج من كارثة إلا لكي نستقبل كارثة أدهى .

173 , 174



عندما نصغي إلى كلام السياسي العربي , في مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية , يحق لنا أن نقول : كل شيء يتيح لنا أن نصف اللغة العربية , اليوم بأنها لغة " أتعبها الكلام" , فهذه اللغة تحولت بفعل هذا التعب , إما إلى مايشبه الضجيج واللغو , وإما إلى الرياء والمداهنة والمواربة . في الحالين , لا تقول شيئا , وقلما ترضي أحدا .

لغة هذا الكلام السياسي المهيمن , ولغة حوارييه , تغمران الواقع بفيض من الألفاظ يؤدي إلى طمسه . تصبح الألفاظ نفسها نوعا من الطمي . ثم يرتد هذا الفيض على اللغة فتبدو كأنها لا تتحدث إلا مع نفسها .ويكاد هذا التعب , مقرونا بالرقابة أو الرقابات , أن يتحول إلى نوع آخر من السرطان الخفي , الصامت , الذي يفترس , بهدوء كامل , جسد اللغة , وجسد السياسة , وجسد الثقافة.

وهاهي اللغة العربية أسيرة "واقع" لا تستطيع أن تتنفس فيه بملء رئتيها . الدين , الجنس , السياسة : ثلاثة "أقاليم" لا عمل لهوائها إلا السهر على خنق هاتين الرئتين , وإلا سجنهما في زنزانات الصمت , والقبول , والتنفس البطيء - في معزل عن حركة العالم - دينا وجنسا وسياسة .

كيف نزيل الطمي؟ كيف نغوص لكي نفجر الماء الصافي , الكامن ؟
أعترف أنني لم أعد أعرف .

175, 176
عندما يقرأ أحدنا كتاباً عن المنجزات الحضارية في البلدان العربية , أكيد أن بعض الأسئلة الحارقة ستثور في نفسه : كيف يمكن أن تتخلف مثل هذه البلدان إلى هذه الدرجة ؟

وعندما تصل المقارنة إلى واقع الحياة اليومية في هذه البلدان , في كل ما يتعلق بحقوق الإنسان , وبالثقافة , ولا يرى إلا السجون والطوارئ والأحكام العرفية , إضافة إلى الفقر والبطالة والأمية وانهيار التعليم , وبخاصة الجامعي , وتفكك المجتمع إلى قبائل وطوائف , وهيمنة الأمن البوليسي على كل شيء , حتى على العلاقات الشخصية فيما بين الناس , أقول عندما تصل المقارنة إلى التأمل في هذه التفاصيل , يصعق , ولا يعود يعرف ماذا يفكر , وماذا يقول ؟ وماذا يفعل ؟

ولا بد من أن يصرخ يائسا : كيف تمكن الحياة في بلدان تسهر السلطات فيها على أن تغلق جميع الأبواب في وجوه أبنائها , إلا تلك التي تفرض الخضوع للسلطة ؟

ولا بد أن يتساءل في ذات نفسه : كيف يمكن أن نغسل في هذا العالم العربي كلمة "سلطة" , من تاريخها الموحل ؟ كيف تقدر مثل هذه السلطة أن تحارب الأرهاب , مثلا , وهي نفسها قائمة عليه ؟
كيف يمكن أن نرفع السلطة في هذا العالم العربي , إلى مستوى الإنسان , مستوى الحق , والحرية , والمعرفة , والكرامة البشرية؟

***

تؤكد التجربة التاريخية , وبخاصة العربية , قديما وحديثا , أن جميع أشكال القمع التي تمارسها السلطة, ليست إلا علامة دامغة على بؤس هذه السلطة وجهلها , وانفصالها عن المجتمع . تؤكد كذلك أن الأنظمة التي تقتل أبنائها , سجنا أو نفيا , أو تحتكر السلطة , إنما تقتل نفسها أولاً , وأن إصرارها على ممارسة القمع ليس إلا إصرارا على الانحطاط والتخلف . والحق أن السلطة في معظم البلدان العربية , بتنويعاتها جميعا , ليست إلا محتَرَفا يتيح لنا أن نكتشف من جديد ضحالة العقل السياسي العربي , وضحالة الحس المدني , وشقاء هذا الكائن الذي يسمى : العربي.

182 , 183

تمثل السلطات العربية , بتنويعات مختلفة , ما يمكن أن نسمية با لأصوليات السياسية . وهي كمثل الأصوليات الدينية , لا تفقه المعنى الإنساني الكياني للحرية , ولذلك لا تقيم لها وزنا , وتستهر بها . ولئن كانت هذه الثانية تقتل في الإنسان "فكره" في المقام الأول , فإن الأولى تقتل فيه "مواطنيته ". إنهما , في التحليل الأخير , متحالفتان , موضوعيا , ضد الحرية , وضد الديمقراطية , وضد الإنسان وحقوقه . ولا يكتمل الخلاص من الأولى إلا بالخلاص من الثانية . والعكس صحيح . ولهذا كنت دائما ضد أي تحالف يقيمه الديمقراطيون العرب مع "الأصوليات " أيا كانت . يطرح الأصوليون الدينيون أنفسهم كأنهم "وكلاء الله" على الأرض . ويطرح الأصوليون السياسيون أنفسهم كأنهم "وكلاء الوطن" . يعدك الأولون إذا اتبعتهم بجنة السماء , ويعدك الآخرون إذا اتبعتهم بجنة الأرض – المناصب والمنافع .

أقول هذا , معلنا في الوقت نفسه , أنني أدافع الآن , وغدا , عن حق الأصوليين , أيا كانوا ,في التعبير بحرية عن أفكارهم وآرائهم.

الأحرار لا يخافون من الحرية.

المستعبدون هم , وحدهم , الذين يخافون منها.

رأس اللغة جسم الصحراء

186



***

كانت الأديان الوحدانية تعنى بالأرض , وعدا بالصعود إلى السماء .
اليوم أبنائها يفضلون عمليا أن تهبط السماء إلى الأرض . وها هي تهبط في اللغة وفي العمل معاً , أي في "الواقع" , لكن في جيوش مدججة بالأسلحة من كل نوع , ومن أجل تحويل الأرض العدوة إلى خراب كامل , بشراً وعمرانا.

لا بد إذاً , أن تغير السماء مهمتها : تنذر , بدلا من أن تبشر . وتتوعد بدلا من أن تَعِد .تفرق بدلا من أن تجمع . وتجيش بدلا من أن تفكر . وتحارب بدلا من أن تسالم . هكذا تصبح السماء جيشا يقوده من كل طرف عسكري لا "يغلب" . ولا يكون معنى للأرض إلا بوصفها مكانا تتم فيه الحروب لتطهيرها من جميع الأعداء . والكارثة أن هذه الحروب متواصلة لسبب بسيط واحد هو أن هؤلاء الأعداء لا نهاية لهم.

187 , 188


يتوجب علينا نحن العرب أن نفكر في الطرائق والأساليب التي جابهنا بها هذا الطغيان الأجنبي ونجابهه : أهي حقا في مستوى قضايانا ؟ أهي حقا في مستوى تاريخنا وثقافتنا ؟ أهي حقا في مستوى إنسانيتنا؟

الشنق الذبح , ضرب الأعناق , قطع الرؤوس , القتل الجماعي دون تمييز بين البريء والآثم , الخطف , الانتحار التفجيري باسم الدين , الذمي ,الكفر , الكافر , التكفير , السنة , الشيعة , "العربي" , "الكردي" ..الخ : تلك هي الكلمات - المفاتيح التي تهيمن , اليوم , على الحياة العربية , وعلى نضالنا , وتكاد أن تقود أفكارنا رغبة , أو رهبة.

كيف إذا لا نتساءل : أبهذه الطرائق والأساليب يمكن أن ننتصر ؟
أبهذه الثقافة يمكن أن نؤسس للحرية أو لحياة إنسانية كريمة , أو لاستقلال , أو لعدالة , أو للوقوف مع الشعوب الحرة المتحضرة , في ساحة واحدة من المساواة والندية ؟

وكيف إذاً , لا يحق لنا أن نصرخ : آها منا أولا , وآها علينا ثانيا , وأف من هذا الزمن , و"تبا" لهذا العصر الذي "نبتكره" باسم "العروبة " حينا , وباسم "الدين " حينا آخر ؟

188

بعد خمسة عشر قرنا من التجربة الإسلامية الفريدة , يقلصها بعض المسلمين , ويحصرونها في : هل أنت شيعي أو سني , أو ذمي كافر , أو هل أنت عربي أو كردي ؟ أو هل ينبغي أن تحيا المرأة سافرة أو محجبة ؟

مرة ثانية , ما أعظم هذه الثقافة التي ردت إليها وحوصرت فيها تلك التجربة الإسلامية .
هكذا ....
بفضل هذه الثقافة , تُحول الحياة إلى مجزرة , ويحول الفكر إلى تأويل في شرعية الذبح والقتل . أو يحول إلى آلة لقتل العقل , ويغير سياق الحياة العربية : من التعقل إلى التسلح , ومن الحوار إلى القتال , ومن التواصل إنسانيا إلى التواصل وحشيا , ومن الانتماء للبشر إلى الانتماء للأشياء . إنها ثقافة الما قبل , منقوعة في خل العنف . لا مكان فيها إلا للملة-الأمة . وليس الفرد , الإنسان , الكائن المشخص إلا لفظة , مجرد لفظة . لا ذوق , لا حس , لا جمال , لا معرفة , بل سديم لفظي , جماعي عائم في مأثورات تتمحور حول اللا : حول النفي , والنبذ , والإقصاء , والتمييز الذي يكاد أن يكون عنصريا.

أعرف أن هناك مسلمين كثيرين يرفضون هذه الثقافة ويدينونها . غير أنني أسألهم : هل يكفي ذلك ؟ هل يكفي أن نقول هذه ليست ثقافة الإسلام؟

ص 190




يجب أن نعترف أن كثيراً مما يمكن أن يسمى في علم النفس بـ "شهوة القتل والإلغاء" , مصحوبة بما يسمونه بـ "طبائع الطفولة" , ظاهرة شديدة الحضور عند كثير من الجماعات التي تتكون منها المجتمعات العربية . وهذا الحضور سياسي وثقافي معا , يحول دون قيام حوار حقيقي بين هذه الجماعات , ويحول بالتالي دون التضامن والتعاون . ودون التقدم . يزيد من التعقيد أن وراء هذه الظاهرة تاريخا طويلا من الطغيان والقتل والكبت على الصعيدين الداخلي-الوطني , والخارجي - الاستعماري , وراءها ,إذا, كثير من الشك والريبة والخوف وانعدام الثقة بالنفس , والاتهام ...الخ , إضافة إلى كثير من الأفكار المسبقة الظالمة والخاطئة في معظمها.


191 , 192


الخلاص من الهيمنة الأجنبية , مثلا يقتضي , أولا وقبل كل شيء , القضاء على كل ما يسوغ له التدخّل: المذهبية , الطائفية , العنصرية والقمع , والعبث بالإنسان وحقوقه . إنه يقتضي أخلاقية البطولة , وبطولة أخلاقية . دون ذلك لن تكون حربنا , مها كانت شعاراتنا وتضحياتنا , انتصارا عليها , وإنما انتصارا لها.

193

"الجماعة بوصفها اسمًا لغياب الأسطورة": عبارة للفيلسوف الفرنسي الشاب جان لوك نانسي، يمكن لنا أن نغير معناها لكي تنطبق على "الجماعة" عندنا، فنقول: "الجماعة بوصفها اسمًا لحضور الأسطورة"! فالجماعة عندنا، دينيًّا أو إيديولوجيًّا، ذات بنية "أسطورية": مطلقة و"فاشية".

هكذا لا نستطيع أن نخرج من "الأسطورة" (بمعناها السلبي المغلق) لمجابهة الواقع كما هو، وبما هو، من أجل تغييره؛ ولا نستطيع، عمليًّا وفي الممارسة الحية، أن نحترم الديموقراطية، والتعددية، والحريات، وحقوق الإنسان، إذا لم نخرج من "سجوننا" الموروثة، وإذا لم نعترف أن شعوبنا مكونة من جماعات تكونت هي نفسها في كنف المذهبية والطائفية والتعصب والانغلاق والعنصرية والطغيان. وإنها، إلى ذلك، جماعات ترتبط بالماضي على نحو "استعادي" و"انبعاثي" أدى، عمليًّا، خصوصًا في القرن العشرين المنصرم، إلى تدمير جميع الممكنات باسم المستحيل. وأن نعترف يعني، ضمنًا وبدئيًّا، القضاء، قبل كلِّ شيء، على هذه السجون.

193

منذ أكثر من نصف قرن , لم يتقدم "الفكر السياسي العربي" , وبخاصة في جانبه الحاكم الرسمي , ذرة واحدة في فهم المعنى العميق الذي تنهض عليه إسرائيل , تاريخيا , وثقافيا , ودينيا . فهي لا تزال دولة مغتصبة عدوانية تدعمها أمريكا ودول الغرب" . وهذا صحيح , من حيث هو وصف . لكن صحيح أيضا أنه وصف خارجي , وصف للمظهر , لا للجوهر . وهو , إذا , لا يقدم معرفة حقيقية .

وبهذه المعرفة السطحية عمل ويعمل بعض العرب , أو جلهم ظاهريا كذلك للقضاء على إسرائيل -"الجسم الغريب ,الدخيل".

كدسوا الأسلحة (الترجمة العملية لذلك :بددوا ثرواتهم ) لوقف عدوانها ,عبثا , أو للقضاء عليها (وترجمة ذلك عمليا :القضاء على شعوبهم). ومع ذلك لا يزالون يصرون على عدم المعرفة .

هكذا , منذ 1948 لم يفعلوا إلا ما يزيد إسرائيل قوة , أو ما يعطيها الذريعة لكي تزداد قوة وهيمنة . وباسم القضاء عليها , لا يزالون يقضون على طاقات شعوب بكاملها . فمنذ هذا التاريخ تعيش الأجيال العربية في أوضاع لا يعرفون فيها سوى الهجرة والتشرد والشقاء اليومي -فقرا وبطالة , قمعا وسجنا . وذلك كله باسم النضال ضد إسرائيل والاستعمار . حتى تحولت الأوطان إلى سجون , وتحول النضال الوطني إلى عماء وطني.

ص 195 , 196


يرى فرويد في كتابه "موسى والتوحيد" أن المكون الأساس للشخصية اليهودية يتمثل في اعتقاد اليهود , على نحو كامل ومطلق , بأنهم شعب اختارهم الله , بين البشر جميعا , لكي يكونوا شعبه الخاص , ولكي يكون ربهم الأعلى .

وهذا الاعتقاد هو ما يجعلهم يؤمنون , على نحو مطلق كذلك , أن الحقيقة ملك لهم وحدهم , وألا حق خارج ما يرون , هم أنفسهم , أنه الحق . وهو ما يحدد تبعا لذلك , حياتهم , نظرا وعملا . هكذا يعيشون ويفكرون كأنهم يتماهون مع إرادة الله : كلامهم إلهي , وعملهم إلهي . فليس في جبة أي منهم إلا الله . هكذا يكون هجومهم على أعدائهم هجوما إلهياً , ويكون دفاعهم كذلك دفاعا إلهياً.

يحار فرويد نفسه في تفسير هذه الظاهرة التي يصفها بأنها " الفريدة في تاريخ الديانات" وأعني تفسير هذا "الاختيار " , متسائلا : كيف يختار الله شعبا ليجعل منه شعبه الخاص" ؟ أو : " كيف حدث أن يدعي شعب صغير , بائس , عاجز, صلف , بأنه الابن الحبيب للرب ؟".

ولعل في هذه الحيرة ما يفسر وصف فرويد للوحدانية , قائلاً " بأن فكرة الله الأوحد لم تكن إلا انعكاسا للفرعون الذي يمارس سلطانا مطلقا " , وبأن الدين عصاب (نفسي-عقلي(.

طبعا لم ينج فرويد نفسه من اتهامه , هو اليهودي , بالتهمة إياها : "اللاسامية" . ولا بد في هذا الإطار , من أن نستثني يهودا كثيرين - علماء , ومفكرين , وفلاسفة وشعراء , وكتابا , وفنانين -رسامين , وموسيقيين , وسينمائيين , ومسرحيين , رفضوا ويرفضون تلك الرؤية الدينية التي توجه السياسة الإسرائيلية.
  
196 , 197

من أين يجيء ذلك الفن الآخر الذي يبرع فيه الساسة العرب : فن تحويل الحياة إلى "حريق " متواصل؟

كل يوم , كما تقول الأخبار , تُكتشف في العراق , المركز الأول تاريخيا للحضارة العربية , جثث لأشخاص تصفهم هذه الأخبار بأنهم "مجهولوا الهوية".

يستغرب كثيرون هذه الظاهرة.
الأكثر غرابة هو هذا الاستغراب نفسه : فمعظم العرب الأحياء , اليوم, هم كذلك "مجهولو الهوية"!

199

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق