الجمعة، 26 فبراير 2016

مقتطفات من كتاب - رأس اللغة جسم الصحراء لأدونيس 2




هل يجب أن يخرج العرب من ديارهم لكي يكونوا مبدعين وعظماء ؟
هل معناهم منحصر في "الهجرة " التي تجعل منهم "أفرادا"؟ كأن العرب لا يبدعون إلا بالمشاركة مع غيرهم . كأن ذاتيتهم الخلاقة لا تنشحذ إلا بالآخر.

كن غيرك ,إذا, لكي تكون نفسك , الآخر يعطيك ما ليس فيك . يكملك , فيما يجعلك أكثر معرفة بنفسك وبالعالم.

"الهجرة" هي أن تكون "فردا" - هي أن تخرج من "الأمة" إلى الكون كله . في "الأمة" لا يكون الفرد سيد نفسه , بل تكون هي السيدة . وليس هو من يحدد الغاية من حياته ووجوده , بل هي . هو فيها مجرد خلية في جسم - كتلة . وهويته هي هوية هذا الجسم - الكتلة.

الفرادة "تنوع" , وتريد "الأمة " أن يكون الفرد معيّة . الفرادة علو , وتريد "الأمة" أن يكون الفرد "ترسباً".

90, 91

عندما أقرأ شخصيا حصيلة النهضة العربية الأولى , فأنني أصل إلى النتائج التالية:

1- نمو التيار الأدبي - الفني الذي أسس له اللبنانيون , لكنه بقي هامشيا , ولم يغير المؤسسة , أو مدونة القيم الفنية - الجمالية الموروثة.

2- تعثر التيار العقلاني النقدي خصوصا في جانبه العلماني , بحيث أصبح هو الآخر هامشيا .

3- هيمنة التيار الديني , بشكليه الإصلاحي والسلفي.

4- احتلال المنجز الصناعي , الغربي والشرقي , ساحة الحياة العربية , وعدم اهتمام العرب بالحركة العقلية والعلمية والتقنية التي حققت هذا المنجز.


5- التنظير لبناء الدولة العربية على أساس تصور طوباوي , منفصل عن الواقع والتاريخ الحي . وعلينا أن نتذكر أن فرض مثل هذه الرؤية الطوباوية , كان وراء عمليات الإبادة الكبرى في القرن الماضي , في دول كثيرة في العالم.
تتيح لنا هذه النتائج أن نطرح , على العكس , أسئلة حول ما إذا كانت هذه الفترة الزمنية , أو ماسمي بـ "النهضة" , مناسبةً لتعميق أشكال التخلف , من حيث أنها حولت الماضي إلى مرجعية معيارية , مرسخة فكرة الزمن الديني الدائري , وفكرة العودة إلى السلف بوصفها تقدما , مقيمة عازلا دينيا بين العرب والفكر الخلاق الذي يتطلع دائما إلى عالم جديد . ومن حيث أنها أعطت الأولية عمليا لا ستعارة المدنية وأدواتها , وليس لابتكارها , أو لمبدأ البحث والتساؤل وإعادة النظر , والتخطيط , والكشف. وهكذا تم التعامل مع العلم بوصفه مجرد سلعة . ومن حيث أنها لم تؤدِ إلى بناء مؤسسات معرفية عالية , في العلم , أو الفن , أو الفلسفة , أو التقنية , أو الاجتماع , أو التربية والتعليم , وبخاصة في المستوى الجامعي . ومن حيث أنها لم تغير جذريا بُنى المجتمع التقليدي , خصوصا فيما يتعلق بالحقوق الأساسية , كدور المواطن في السلطة , وقضايا المرأة , تمثيلاً لا حصرا .أخيراً لم تؤسس , في أي ميدان لمستقبل إنساني أفضل وأجمل .

96 , 97

هكذا , يمكن أن نصف ما سمي "عصر النهضة" , بأنه كان في أحسن ما يوصف به , نوعا من الرغبة في الإصلاح الذي يُغلّب الماضي بقواعده ومعاييره , على الحاضر بتفجراته وأسئلته . وفي هذا ما يوضح كيف أنه لم يطرح أي سؤال جذري على ما ننهض منه , أو به , أو فيه , خصوصا على البنية المعرفية التي تتمثل في الوحي والدين , وعلى مدنية المجتمع . كان الفكر نوعا من العودة الهائمة إلى الوراء , نوعا من الهبوط في زمن انتهى . كان خطابا استعاديا , أو صدى حتى يتخيل للمتأمل أننا كنا نعيش في هذا "العصر النهضوي " أشبه باشباح تتحرك داخل غابة ساحرة أو سحرية اسمها اللغة - الدين .

حقا لم يوصلنا هذا العصر إلى عروبة إبداع , ومساءلة , وبناء , وإنما أوصلنا , على العكس , إلى عروبة متوهمة , وكان نوع حضورها هو نفسه يضفي عليها خاصية الغياب . والفاجع فيها , اليوم , هو أن عذابها لم يعد يجيء من الماضي الذي تكونت فيه , بقدر ما يجيء من المستقبل الذي تتجه إليه .

97 , 98

أود أن أقول إنني لا أدعو , فيما تقدم , إلى ذم الماضي بكليته أو رفضه جملة , كما قد يظن بعضهم . وأن أقول إنني لست ضد الدين بوصفه إيمانا فرديا , فهذا حق يجب أن ندافع عنه جمعيا , كما يجب أن ندافع عن الحق الآخر : اللاتدين بوصفه أيضا إيمانا فردياً.
98
إن المشكلة في الحياة العربية , وفي لبنان لا تنبع من الخارج , خلافا لما يُظن , بقدر ماتنبع , على العكس, من الداخل . وهي تكمن , أساسا بالنسبة إلي , في الرؤية الدينية السائدة التي تصر على أن تكون الطبيعة صورة وامتدادا لما وراء الطبيعة , وعلى أن تكون التجربة الدينية الخاصة , تجربة عامة , تتمأسس في السياسة والعلم والفن والقيم والعلاقات جميعا . وهي رؤية تتنافى مع المدنية الديمقراطية , ومع حريات الإنسان وحقوقه , ومع التعددية والتنوع .


تنهض هذه الرؤية , من الجهة الإسلامية , لكي لا أتكلم إلا عليها على القول , إن الرسالة الإسلامية هي الرسالة الإلهية الأخيرة , التي بلغها للبشر رسوله الأخير . وهي بوصفها كذلك , كاملة ونهائية , وتحمل الحقائق الكاملة والنهائية . وليس للإنسان , إذا , منذ أن يؤمن بها , أن يعدلها أو يضيف إليها ,أو يحذف منها . ليس له حتى أن يتخلى عنها إلى غيرها . ليس عليه إلا أن يفسرها ويطبقها . بل إن في هذه الرؤية مايشير إلى أن الله نفسه لم يعد لديه ما يقوله لأنه أعطى آخر كلامه لآخر أنبيائه . ومن هنا ينظر إلى من يخرج على هذه الرسالة كأنه لا يخرج على الله وحده , أو على نبيه الأخير وحده , وإنما يخرج على إنسانيته ذاتها , ويصبح مجرد شيء بهيمي يجب الخلاص منه كأنه وباء قاتل . والحق أنه كل فئة دينية في لبنان تنطلق من مثل هذه الرؤية بشكل أو بآخر , هذه الرؤية لا تحتل الشعور وحده , وإنما تحتل اللاشعور كذلك . واللاشعور يجهل الزمن , كما يقول فرويد . والذين يجهلون الزمن , لا يجهلون المكان وحده , وإنما يجهلون كذلك الإنسان والحياة والعالم . هكذا يبدو كأن اللبنانيون يقيمون خارج لبنان.

إن تحكم هذه الرؤية بالحياة الاجتماعية - السياسية هو أساس الشلل الذي يهيمن على لبنان , وهو على المستوى العربي هو أساس التخبط والتعثر . ولننظر للقدس , مثلاً , من زاوية هذه الرؤية : فهذه المدينة التي تقدسها لوحدانيات الثلاث تبدو اليوم بين أكثر المدن بالعالم امتهانا للإنسان حقوقا وحريات .


99,100

أن النهوض , مدنيا وعقلانياً , لا يمكن أن يتم إلا إذا تم الفصل الكامل بين الديني والسياسي , بين الوحي والدولة .

ولا أعني بهذا الفصل إلغاء الدين بالضرورة من حياة الفرد , أو إلغاء الحاجة إليه , فالحق بالتدين أمر شخصي يقرره الشخص نفسه , لا التاريخ ولا التراث , لا المجتمع والا الدولة . وهو حق يجب أن يصان , ويدافع عنه , ويحمى لأنه متضمن في الحق بالحرية . غير أنه لا يكتمل حقا , إلا إذا نظرنا إلى الحق باللاتدين النظرة نفسها . هكذا أعني بهذا الفصل إمكان نشوء مجتمع مدني لا يكون ملحدا بالضرورة ويكون الأفراد فيه أحرارا في معتقداتهم , لهم الحقوق نفسها والواجبات نفسها .

دون هذا الفصل بين الديني والسياسي , سنظل نتحرك داخل بُنى تيوقراطية شبه قبلية , لكي لا أقول شبه عنصرية , تلغي الآخر المختلف بطريقة أو بأخرى , أو تقبله بشرط أو آخر . وهذا ما يتناقض , جوهريا , مع إنسانية الإنسان نفسها , وإن تطابق مع الرؤية الدينية الوحدانية .

ودون هذا الفصل سيظل الآخر المختلف دينا وانتماءً , في المجتمعات العربية تابعاً , خاضعاً , مهمشاً كأنه إنسان بالقوة لا بالفعل , أو كأنه مجرد اسم ورقم ورسم على ورقة تسمى "بطاقة الهوية".


101

إن الطائفية في لبنان تعمل بوصفها سياسة , كأنها خلية سماوية في الجسم اللبناني . ومن الصحيح أن إخراج هذه الخلية من هذا الجسم نوع من خلخلته . لكن صحيح أيضاً أن إبقاءها سيبقي هذا الجسم في حالة من الخلل الدائم . وتبعا لذلك سيظل الفرد في لبنان يحيا ويفكر ويعمل بوصفه فردا في طائفة , لا بوصفه مواطنا في مجتمع مدني : لا هوية له خارج ارتباطه بها , بحيث يبدو كأنه لا يحيا من أجل التحرر والحرية , بقدر ما يحيا من أجل قيوده . أولا يحيا من أجل حضوره , بل من أجل غيابه , كأنه لا يخرج من قيد إلا لكي يدخل في قيد . دون هذا المشروع , مشروع الدولة المدنية الديمقراطية , سيبدو في هذا العصف التاريخي العربي , أن التعددية التي كانت في أساس كينونة لبنان لا تعمل , موضوعيا , إلا في اتجاه محو هذه الكينونة .

104

يصعب فهم الصورة التي يقدمها اليوم لبنان عن نفسه , إذا لم نفهم "المعنى" الذي ينهض عليه.
يتمثل هذا "المعنى" كما أراه , في أمرين:

الأول , هو الخروج من الشمولية الدينية التي تهيمن على العالم العربي .
والثاني, هو الخروج مما تستتبعه هذه الشمولية , سياسيا واجتماعيا وثقافيا , أي الخروج من الشمولية السياسية.
ولبنان , بهذا المعنى "علماني" دون علمانية , و"تعددي" دون تعددية , و"ديمقراطي" دون ديمقراطية .

فبقدر ما يكون التعدد مصدر دينامية وغنى , يمكن أن يكون كذلك مصدر انشقاق وتخلف كارثيين . وهذا مايك شف عنه أي تدخل خارجي , عربي أو أجنبي , أو أي إخلال بالتوازن الداخلي . فكل تدخل خارجي في لبنان , من أي جهة جاء , يشكل عامل خطر , لأن يخل بدينامية الجماعات اللبنانية , القائمة على العيش المشترك , والاعتراف المتبادل . غير أن اضطراب السياسات العربية والأجنبية , وتناقض المصالح أو تشابكها , والصراع المعلن أو الخفي عليها , أمور تجعل لبنان في حكم موقعها الجيوسياسي , عرضه لخطر دائم يحول دون أن تنضج , في الممارسة والواقع تجربته الحياتية . هكذا لم تعط , مثلاً التعددية فرصها الايجابية جميعها . فحيوية التعدد تجيء من التفاعل والتبادل بين الناس , ومن نمط الحياة اللبنانية , ولا تجيء من تركيبة السلطة . فلبنان الناس بلد ينمو ويزدهر بقوة هذه الحيوية وفي معزل عن لبنان النظام . ولكي تظل هذه الحيوية فاعلة لابد لها من الحرية , السياسية والفكرية . ولا يعطل هذه الحيوية ويشلها إلا الضغط والقمع من الخارج أو من سلطات الداخل.                        

105 ,106


قتل الإنسان سياسيا ليس ظاهرة جديدة في تاريخنا . إنه "تقليد" يندرج في تاريخ سياسي عربي طويل , مؤسس على العنف . ولقد علمنا هذا التاريخ أن الإنسان والكرامة البشرية , والحق بالحرية والاختلاف هي آخر ما تُعنى به السياسة العربية . وما دامت أُسس هذا التاريخ قائمة , لا في السياسة وحدها , وإنما في الثقافة كذلك , وهذا هو الأشد خطرا ً فإن هذا التقليد سيظل قائما , بشكل أو آخر , قليلا أو كثيرا . وهو قائم بإشكاله "المعنوية" والفكرية - الثقافية , في البلدان العربية جميعها . ومن يطلع على وسائل الإعلام العربية , سيرى أنها ساحة ضخمة "يقتل" فيها العرب بعضهم بعضا , وتسيل فيها "دماؤهم" في حركة مرعبة من تبادل التهم : تُهم العمالة , والتخوين , والتكفير والتجريم , بسهولة ودون أي وازع أخلاقي , ودون أي احترام للإنسان وحقوقه .

كل ذلك يؤكد أن العنف سيظل حاضرا , إلا إذا قضينا على أسسه في تاريخنا السياسي - الثقافي . وهو تاريخ يشهد أن السلطة عند العرب لم تكن حتى الآن إلا نوعا من الاغتصاب , وأن القتال عليها بمختلف الوسائل , هو بينهم الشيء المشترك الأول , لا الديمقراطية , ولا حقوق الإنسان , ولا حرياته .

107 , 108
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق